والمفارقة أن بعض من يرفع شعاره شارك منذ عقود في إضعاف الدولة وتهميش القوانين
#الثائر
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده ، خدمة الهجمة وقداس الفصح في كاتدرائية القديس جاورجيوس، في حضور حشد من المؤمنين.
بعد الإنجيل المقدس ألقى عوده عظة بعنوان "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنفرح ونتهلل به"، قال فيها: "وصلنا إلى اليوم المنشود، يوم القيامة البهي، وخبرنا ميدان الصوم وتجاوزنا عواصف التجارب التي صادفتنا خلاله، وها نحن نصرخ: المسيح قام. لقد غلب إلهنا الموت بموته فلا خوف بعد من الموت لأن شوكة الجحيم قد تكسرت".
أضاف: "صلوات الأسبوع العظيم المقدس هي لنا، نحن المسيحيين، دروس في المواطنة. طبعا تشدد كنيستنا على أن موطننا الأصلي هو أورشليم العلوية، لأن أورشليم الأرضية هي موطن الألم والشقاء. في صلاة الختن الأولى عشية عيد الشعانين نسمع يسوع يقول لتلاميذه: "لست صاعدا إلى أورشليم الأرضية لكي أتألم، بل إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم، وأرفعكم معي إلى أورشليم العلوية في ملكوت السموات". وفي الرسالة التي قرئت اليوم من أعمال الرسل القديسين نرى الرب يسوع يتراءى لتلاميذه "مدة أربعين يوما، يكلمهم بما يختص بملكوت الله"، أي يعلمهم كيف يكونون مستحقين للموطن الأصلي. أما بولس الرسول فيشدد في رسالته إلى العبرانيين على أنه "ليس لنا هنا في الأرض مدينة باقية ولكننا نسعى إلى المدينة العتيدة" (13: 14). ولكي نبلغها يعلمنا الرسول ذاته: "أطيعوا مدبريكم واخضعوا لهم، لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم كأنهم سوف يعطون حسابا" (13: 17). نعم على الشعب أن يطيع مدبريه، أي رؤساءه، لكي يكون كل شيء بلياقة وترتيب. لكن الرؤساء يغفلون أنهم سوف "يعطون حسابا" في اليوم الأخير إن لم يسهروا على من تسلموا مسؤولية الإعتناء بهم ولم يحفظوا الأمانة".
وتابع: "نرتل في صلاة الختن: "من الليل تبتكر روحي إليك يا الله، لأن أوامرك نور على الأرض. تعلموا العدل أيها السكان على الأرض. الغيرة تأخذ شعبا غير متأدب، والنار تأكل المضادين. فزدهم أسواء يا رب، زد أسواء عظماء الأرض". من يتبع أوامر الرب يسير في النور ويقود من حوله إلى هذا النور. والنور على الأرض هو العدل والحق والرحمة والسلام. إن لم يتعلم الإنسان كيف يرحم أخاه الإنسان وكيف يقف وقفة حق في سبيل خلاص أخيه، لن تعرف الأرض عدلا ولا سلاما، وستبقى الحروب والمجازر تعم المسكونة. وإن لم يعرف الإنسان الرحمة والحق ولم يفض قلبه بالمحبة، سوف تندثر كل ثقافة وحضارة لأن الواحد يعتبر حضارة الآخر تهديدا لوجوده، والثاني يرى في ثقافة الآخر إلغاء لثقافته. هذا ما نشهده من تدمير للكنائس والمساجد أو تهجير للأقليات أو محو لحضارتها وآثارها. وآخر ما شهدناه من مظاهر الإرهاب تفجير الكنائس في سريلانكا فيما كان المؤمنون يحتفلون بعيد القيامة".
وقال: "هذا ما عايناه في هذه الكاتدرائية التي أحرقت إبان الحرب الأخيرة وعانت ما عانته من سرقة أيقوناتها وتنكيل جدرانياتها. لكننا قياميون ومؤمنون بالمسيح القائم من بين الأموات، لذلك عملنا على إعادة الكاتدرائية إلى أبهى حللها، حلة القيامة المجيدة. هذه القيامة نتمناها للبناننا الحبيب الذي طالما كان شامخا مثل أرزه وقياميا ينهض من تحت ركام خطيئة الحروب التي مر بها. ولطالما كان اللبنانيون خلاقين يستنبطون من الضعف قوة ومن المآزق حلولا. لكنهم يرزحون اليوم تحت أثقال ما عادوا قادرين على احتمالها لأنهم أصبحوا مهددين بلقمة عيشهم ومستقبل أولادهم، وقد استنزف جيوبهم التراجع الإقتصادي والضرائب وغلاء المعيشة، واليوم يخيفونهم من تقليص رواتبهم وانهيار دولتهم. لماذا يحصل كل هذا؟ لأننا نفتقد العدل ولا نعمل بهدي النور والصدق والشفافية، ولأن المحبة غابت والإيمان تقلص والأخلاق انحطت وصارت الأنانية تحكم والمصلحة تغلب، فغابت مفاهيم الدولة والسلطة والقانون، وصار الفساد قاعدة، والهدر واستغلال المال العام مسموحا، ومن يعقد الصفقات ممدوحا، ولم يعد الضمير صاحيا عند بعض من ارتكبوا المحرمات وأوصلوا لبنان إلى ما وصل إليه. والمشكلة أن ليس هناك من يحاسب وقد أصبحت الحكومة صورة مصغرة عن مجلس النواب وتعطلت كل أجهزة الرقابة والمحاسبة".
أضاف: "أما الآن، بعد أن استفاقت الدولة وأدرك الجميع أن البلد سينهار على رؤوسهم، حملوا جميعهم لواء مكافحة الفساد وضبط الهدر وتقويم الإعوجاج، وأصبحنا نسمع يوميا فضائح المخالفات والتجاوزات والصفقات واستغلال السلطة والمال العام، حتى إن الفساد قد تمدد إلى نفوس بعض القضاة. المفارقة أن بعض من يرفعون شعار الإصلاح ومحاربة الفساد قد شاركوا منذ عقود في إضعاف الدولة وتهميش القوانين بغية تخطيها، أو ساهموا في الفساد أو الإفساد أو حماية الفاسدين الذين عاثوا خرابا في مؤسسات الدولة وماليتها، ومنهم من عطل مؤسسات الدولة أو منع إتمام الإستحقاقات الوطنية في مواعيدها الدستورية، أو شوه نظامنا الديموقراطي الذي لم يبق منه إلا الإسم، أو امتهن التهريب واستباح الحدود، أو اختلق الجمعيات الوهمية، أو عقد الصفقات المشبوهة أو بدد المال العام أو أثقل الإدارات بالموظفين وتدخل في شؤون القضاء ومنع رفع الحصانة عن المرتكبين. والمضحك أنهم لم يروا قبل اليوم كل التجاوزات والمخالفات التي يعددونها اليوم ويتنطحون لمكافحتها".
وتابع: "أما وقد تجند الكل للمساهمة في الإنقاذ فنقول لهم إن المطلوب قليل من الكلام وكثير من الجدية والعمل. المطلوب التخلي عن المناكفات وتبادل الإتهامات وتقاذف المسؤوليات، والإنصراف إلى العمل الجدي في إطار المؤسسات، والعمل على وقف استباحة الدولة وقوانينها. المطلوب صحوة ضمير واعتراف الجميع قولا وعملا بسيادة الدستور، وتطبيق القوانين، وتفعيل أجهزة الرقابة وملاحقة ومعاقبة كل من يتعدى على المال العام. المطلوب ضبط النفقات، وعوض التطاول على رواتب صغار الموظفين الذين يعيشون من عرق جبينهم، المطلوب تحسين الجباية وإيقاف الهدر في الإدارات والقطاعات والصناديق التي لم يعد لها عمل وما زالت تكلف الدولة الملايين، والحد من تقاضي البعض أكثر من راتب (وقد سمعنا أحد الوزراء يذكر قيما خيالية). المطلوب انتفاضة حقيقية على كل الألاعيب والأكاذيب والشعارات والوصول إلى إصلاح سياسي وإداري يمنع تمادي الانحطاط الأخلاقي والسياسي. المطلوب تطهير الجسم القضائي وإعادته سلطة مستقلة بعيدة عن السياسة والسياسيين لكي يتمكن القاضي من العمل بوحي رسالته وضميره ويكون نزيها وحرا من كل انتماء أو استتباع. والمطلوب من المجلس النيابي أن يقوم بدوره الرقابي وأن يسائل ويحاسب كل من يمد يده إلى مال الدولة أو يسيء إليها".
وقال: "المطلوب إعادة كل قرش مسروق إلى صندوق الدولة ومحاكمة السارقين لكي يرتدع كل من تسول له نفسه بعد مد اليد إلى مال المكلفين. المطلوب التشهير بمن يتهرب من دفع الضرائب أو يساهم في غض الطرف عن التهرب الجمركي أو سرقة الكهرباء أو التعدي على الأملاك العامة أو استغلال أي مرفق من مرافق الدولة".
أضاف: "باختصار، المطلوب إعلان حال طوارىء اقتصادية وبدء مسار إصلاحي يتعهد الجميع باحترامه وتطبيقه وعدم استباحته تحت طائلة التشهير والعقاب. وكما أصبح الفساد وراثيا يتناقل من عهد إلى عهد ومن جيل إلى جيل، ليتعهد الجميع جعل الأخلاق والنزاهة والأمانة ثقافة يتوارثونها جيلا بعد جيل. وليعلنوا الولاء للبنان وحده لا للمصلحة أو الطائفة أو الزعيم، ولتكن مبادىء الحرية والعدالة والمساواة بين المواطنين هي المبادىء التي يحافظ عليها الجميع لتعود ثقة اللبنانيين بدولتهم ويعود لبنان كما يشتهيه الجميع. إنها حقبة تاريخية من عمر لبنان وهي بحاجة إلى رجال كبار يتخذون مواقف كبيرة أولها فرض هيبة الدولة والاقتصاص من كل معتد على أمنها وحدودها أو على دستورها وقوانينها ثم رسم رؤية واضحة وتحديد الأولويات والمبادرة إلى العمل المتواصل حتى يتم الإنقاذ".
وتابع: "صرخنا البارحة في قداس سبت النور: "قم يا الله واحكم في الأرض". دعاؤنا أن تكون هذه الصرخة لسان حال جميع اللبنانيين وأملنا أن يفسحوا لله مكانا في قلوبهم ليهتدوا بنوره ويعملوا بحسب مشيئته ويرتدعوا عن كل ما جنته أيديهم بحق وطنهم وإخوتهم وأنفسهم فينهض لبنان ويعود مفخرة لأبنائه. لقد طالت جلجلة اللبنانيين لكننا نؤمن أن القيامة لا بد آتية، لذلك نرفع الدعاء إلى من صلب ومات من أجلنا ثم قام دائسا الموت بموته، أن ينزل لبناننا عن صليب عذابه ويقيمه من محنته ويبارك كل خطوة يقوم بها أي مسؤول من أجل إنقاذ هذا الوطن".
وختم عوده: "نصلي أيضا من أجل راحة نفوس الأبرياء الذين سقطوا ضحية الإرهاب الوحشي، ومن أجل عودة النازحين إلى ديارهم والمخطوفين إلى ذويهم ومن أجل عودة أخوينا المطرانين بولس ويوحنا سالمين. المسيح قام حقا قام، فلنسجد لقيامته ذات الثلاثة الأيام".
وطنية -