#المغرّد
أفول أميركا القديمة في عالم جديد
من قلب الشرق الأوسط إلى قلب أوروبا، تبرز أمثلة سياسية ولحظات فارقة تنم عن اعتماد الحرب الباردة والدافئة بين واشنطن والصين.
وجدت الولايات المتحدة نفسها على الهامش مع توصل الخصمين الإقليميين، السعودية وإيران، إلى اتفاق تطبيع علاقات في بكين، وبرعاية مباشرة من الرئيس الصيني شي جينبينغ، وكأنها تسلط الضوء على تراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط. لا يحمل هذا التطور تأكيداً على تنامي أهمية الصين وحسب؛ بل يبشر أيضاً ببزوغ فجر حقبة جديدة في العلاقات الدولية، للصين فيها دور اللاعب المركزي في الأحداث الدولية وتقرير وجهتها. وليس أدل على ذلك من زيارة الرئيس الصيني إلى موسكو، ولقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، متجاوزاً المفاعيل السياسية لإصدار محكمة الجنايات الدولية مذكرة توقيف بحق بوتين، ومؤكداً أن العالم يمرُّ بمخاض تغييري غير مسبوق خلال قرن من الزمن.
بموازاة الاستعراض السياسي، وفي خليج عمان تحديداً، مثلت التدريبات البحرية المشتركة «حزام الأمن البحري- 2023» تطوراً ملحوظاً؛ حيث تُظهر الصين وإيران وروسيا -وكلها على خلاف مع الولايات المتحدة- علاقاتها السياسية والعسكرية المتنامية، وتبعث برسالة تؤكد تطور المشهد باتجاه عالم متعدد الأقطاب، يهدد الهيمنة الأحادية الأميركية.
علاوة على ذلك، فإن استضافة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً للرئيس السوري بشار الأسد، والجهود المبذولة لتعزيز المصالحة بين سوريا وتركيا العضو في حلف شمال الأطلسي تُظهر أيضاً التحدي المستمر الذي يمثله خصوم واشنطن، والذين يبرعون في انتهاز فرصة انشغال الولايات المتحدة بالصراع الروسي الأوكراني. فمن خلال الوساطات المتعددة لابتكار حلول وتسويات للنزاعات الإقليمية، ومن خلال تعزيز صور التنسيق الدبلوماسي والسياسي والعسكري، تؤكد هذه الدول على جديتها في منازعة أميركا، وإعادة تعريف الواقع الجيوسياسي وعلاقات القوة والتوازن فيه، بطريقة تتعارض بشكل مباشر مع تفوق أميركا الطويل الأمد على المسرح العالمي.
في المقابل، وبينما تتولَّى الصين عباءة الوسيط في الشرق الأوسط، وتتحدى النفوذ الأميركي باستمرار في أكثر من ملف سياسي وتكنولوجي واقتصادي، وبينما تعمل روسيا على تحقيق إنجازات ملحوظة في المنطقة، ما يعزز فكرة أن حربها في أوكرانيا لم تضعف مكانتها الدولية أو قدرتها على تعدد المهام، نجد أن واشنطن قد ركزت جهودها على تعزيز الشراكات العسكرية والأمنية في محيط الصين، إلى جانب انخراط واشنطن العميق في أوكرانيا.
ففي محاولة لتعويض الوجود المتزايد للصين في المحيطين الهندي والهادئ، كشفت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا عن تفاصيل جديدة تتعلَّق باتفاقية «أوكوس» الهادفة لتسليم كانبيرا غواصات تعمل على الطاقة النووية، وهو ما يثير قلق الصين وحفيظتها.
علاوة على ذلك، ونتيجة مساعٍ مستمرة من قبل واشنطن، اتفق رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، ورئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول، على تجاوز شوائب العلاقات المضطربة بين بلديهما، متعهدين بالعمل معاً بشكل وثيق لمعالجة المخاوف الأمنية الملحة في المنطقة، كالأنشطة الصاروخية لكوريا الشمالية والنفوذ المتزايد للصين. كان اجتماع طوكيو أول زيارة لرئيس كوري جنوبي لليابان منذ أكثر من عقد. واتفق الزعيمان على استئناف «الدبلوماسية المكوكية»، وتسوية نزاع تجاري طويل الأمد يتعلق بالمنتجات عالية التقنية الضرورية لإنتاج أشباه الموصلات. ويعد هذا الاختراق السياسي تطوراً مهماً لا بد من أن تنظر إليه بكين بعين القلق؛ إذ إنها تفضل الاستثمار في علاقات النفور والتوتر بين جيرانها، لا أن تستثمر واشنطن في واقع معاكس لذلك تماماً.
بيد أن الصراع بين الولايات المتحدة وخصومها يتجاوز مجرد الرمزيات وتسديد اللكمات السياسية والاستعراضات الدبلوماسية. إن إسقاط طائرة أميركية من دون طيار من طراز «MQ-9 Reaper» بواسطة مقاتلات روسية من طراز «Su-27» قبل نحو أسبوعين فوق البحر الأسود، إلى جانب إسقاط الجيش الأميركي لمنطاد تجسس صيني في فبراير (شباط) الماضي قبالة سواحل ولاية كارولاينا الجنوبية، يسلط الضوء على احتمال وقوع مواجهات غير متوقعة. كلا الحادثين يمثل المواجهات العسكرية التي يمكن أن تنزلق باتجاه ما هو أسوأ، نتيجة التوازن الهش بين الدول المعنية بهذه المنافسة.
أصدر دوغ وايد، مسؤول ملف الصين في وكالة الاستخبارات الدفاعية (DIA)، مؤخراً، تحذيراً من أن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين تنحرف إلى مرحلة تتميز بارتفاع الاحتكاك؛ حيث تنظر بكين إلى أميركا على أنها عائق أمام صعودها نحو المكانة العالمية التي تستحقها. ووصف موقف الصين بأنه ينطوي على استعداد للمواجهة ولو على مضض؛ حيث إنها -حسب وايد- تفضل تجنب هذا السيناريو.
وسط تصاعد الصراع السياسي والعسكري بين الولايات المتحدة والصين، هناك تنامٍ في مؤشرات فك الارتباط الاقتصادي بين البلدين. تاريخياً، كانت المصالح الاقتصادية العالمية الثنائية بين بكين وواشنطن بمثابة عنصر مهدئ في الصراعات، ولعبت دوراً في ضبط حرارة التوترات بين البلدين. بيد أن عملية الفصل الاقتصادي المستمرة بين الجبارين تقوض جانباً أساسياً ومعقداً من جوانب الاستقرار في علاقتهما متعددة الأوجه.
وفقاً لمؤشر «DHL Global Connectedness Index 2022»، وهو فحص شامل للعولمة ومسارها المستقبلي، هناك مؤشرات واضحة على انفصال متزايد بين الولايات المتحدة والصين عبر مختلف القطاعات، وخصوصاً الانخفاض الكبير في حصة التبادل التجاري بينهما. وبالتوازي مع هذا الاتجاه، خفضت الصين حيازاتها من سندات الخزانة الأميركية إلى أدنى مستوى، منذ الأزمة المالية العالمية في مايو (أيار) 2009؛ هذا الانخفاض يدل على الانخفاض الشهري السادس على التوالي في حيازات الصين، والتي بلغت 859.4 مليار دولار أميركي في يناير (كانون الثاني)، في مقابل 867.1 دولار قبلها.
تؤكد أحداث الأسابيع القليلة الماضية على التحولات المتسارعة التي تصيب الساحة العالمية؛ حيث تتصارع الولايات المتحدة مع حقيقة ظهور لاعبين رئيسيين جدد، لا سيما الصين، بالإضافة إلى اضطرارها للتعامل مع المناورات الجريئة لكل من أعدائها وأصدقائها. وبينما يشهد العالم على بدء عهد جديد في الشؤون الدولية، يتميز بالتفكك السريع لميزان القوى السابق والمناورات السياسية الحادة، فإن التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة ينطوي على رسم مسار لنفسها عبر هذه البيئة المعقدة والقابلة للاشتعال، يعيد تثبيت مكانتها على المسرح العالمي، أو يعيد تعريف حدود ومواصفات هذه المكانة وفق الوقائع الجديدة الناشئة.