#المغرّد
كتب الوزير السابق سجعان قزي في جريدة النهار يقول:
أجرى لبنانُ فحصًا طبيًّا ـــ غير دوليّ ـــ فظنَّ الطبيبُ وهو يَقرأ النتيجةَ أنَّ الفحصَ، المليءَ بالشوائبِ والتناقضات، يعود لِـ"مجموعةِ" مَرضى لا لمريضٍ واحد، فيما هو للبنان الواحد مبدئيًّا بأرضِه وشعبِه. الفحصُ أظهر الآتي:
1) يقعُ لبنان وسْطَ المشرقِ الآرامي ـــ الفينيقي ـــ السِرياني ـــ العربي ويَتقدُّم في الجغرافيا كثغرٍ مستطيلٍ يَبتسمُ للبحرِ الأبيضِ المتوسّط، ويَحمي ابتسامتَه بسلسلتَي جبالٍ تفصلان بين حضارتَين.
2) تحيطُ بلبنان دولتان: سوريا وإسرائيل وتتبادلان حيالَه نزعةَ الهيمنةِ على مصيرهِ ونزوةَ التدخّلِ في شؤونِه، فتؤثّران على قلبِه ورئتَيْه وتَنفُّسِه. ورغم أنَّ الأولى شقيقةٌ بالجغرافيا والأخرى عدوَّةٌ بالتاريخِ، فإنهما تلتقيان ضِدَّ جغرافيا لبنان وتاريخِه.
3) يتكوّنُ لبنان من ثلاثِ مجموعاتٍ أساسيّة: المسيحيّون والمسلمون والدروز (هذه هي الثلاثيّةُ التاريخيّة). وتتميَّزُ مكوِّناتُ هذه المجموعات بضعفِ تضامنِها ووحدِتها، بولاءِ بعضها إلى دولٍ وقوميّاتٍ أخرى، باختلافِها على صيغةِ الأمّةِ ونظامِها والشراكةِ في السلطةِ وعلى أنماطِ الحياةِ والسياستَين الخارجيّة والدفاعيّة.
4) تَنخُر الجسمَ اللبنانيَّ كوكبةٌ مختارةٌ من الأمراضِ المزمِنةِ والمستجِدَّة، بعضُها يُعالجُ بالعقاقير وبعضُها الآخَر يَستوجِب الاستئصالَ السريعَ قبلَ وفاةِ لبنان الواحد.
نحن إذن في وطنٍ مفخَّخٍ. زرعوا في كيانِه موادَّ متفجِّرة. ورغم أنَّ ساعةَ تفجيرِ الوطن تُسرِع، لا نزال قادرين على نزعِ صاعقِ التفجير إذا قرّرنا الحفاظَ على وِحدةِ لبنان. معيارُ هذه الإرادةِ هو اعتمادُ "الحِياد الناشط" بعيدًا عن أيِّ تموضعٍ سياسيٍّ وطائفيٍّ وحزبيٍّ وعقائدي. فالقانونُ الدستوريُّ وَصَفَ نظامَ الحيادِ لمعالجةِ أوضاعٍ كالوضعِ اللبنانيِ تحديدًا. ويتأكّدُ ذلك حين نكتشِفُ أنَّ جميعَ العِلاجات والـمُسكِّنات التي جرَّبناها لم تُشْفِ لبنان، لا بل ساهَمت في انهيارِه.
منذ بروزِ معالم الكيانِ اللبنانيّ مع المدائنِ الفينيقيّة، إلى إمارةِ الجبل، الكبير، والمتصرفيّة، وصولاً إلى دولةِ لبنان الكبير، واللبنانيّون يَتحاشَوْن الانحياز. وأساسًا، إنَّ الجماعاتِ المسيحيّةَ والمسلمةَ التي أمَّت جبالَ لبنان عبرَ التاريخِ كانت تَبحث عن ملاذٍ آمنٍ بعيدٍ عن حروبِ المِنطقةِ ونزاعاتِها، أي تبحثُ عن الحياد. ودولُ الفتوحاتِ الإسلاميّةِ (635/1914) على تَنوُّعِها، جُلُّ ما كانت تَطلُبه من اللبنانيّين: الهدوءُ وعدمُ الانحيازِ نحو الغربِ أو نحو طرفٍ عربيٍّ أو إسلاميٍّ آخَر. وفي هذا السياق، كان جوهرُ نظامِ المتصرفيّة (1861/1918) إنشاءَ كيانٍ لبنانيٍّ حِياديٍّ بين السلطنةِ العثمانيّةِ والممالكِ الأوروبيّةِ بضمانةِ الطرفين، فيما جوهرُ دولةِ لبنان الكبير كان الحيادَ بضمانةٍ فرنسية أوّلًا، ثم بالتزامٍ لبنانيٍّ في بيانِ الاستقلال. حتّى أنَّ الملِكَ فيصل بن الشريف الحسين، الذي كان يناضلُ لتوحيدِ المشرقِ العربي، اقترحَ الحكمَ الذاتيَّ لجبلِ لبنان المحايِد أثناءَ لقائِه رئيسَ حكومة فرنسا جورج كليمنصو (بـاريس - 6 كانون الثاني 1920).
واللافتُ أنَّ لبنانَ ما انحرفَ عن الحيادِ إلا في حالتين أساسيّتين: 1) حين يَتسلّحُ بعضُ مكوّناتِه بموازاةِ الدولةِ في إطارِ صراعٍ ذي امتداداتٍ عربيّةٍ ودوليّة. 2) وحين يَتعرّضُ لاجتياحٍ واحتلال. أما لبنانُ الحرّ، الذي لا سِلاحَ فيه غير سلاحِ الدولةِ فقط، فكان يَتّبع عمومًا سياسةً محايِدة. وهنا بعضُ الأمثلة:
· حاول الفينيقيّون في القرنين الرابع والخامس ق.م. البقاء خارج الحروب الدائرةِ بين الفُرس والفراعنةِ والإغريقِ والبابليّين فازدَهرت مدائنُهم، لكن لـمّـا أَصبح الصراعُ الفارسيُّ/الإغريقيُّ استراتيجيًّا (كحالِ الصراعِ الإيرانيِّ/الأميركيِّ) ابتداءً من سنةِ 547 (ق.م.)، فَرضَ الفرسُ على الفينيقيّين التخلّي عن حِيادِهم والمشاركةَ في حروبِهم ضِدَّ الفراعنةِ والإغريقِ والبابليّين. فاستُشهدَ ألوفُ الفينيقيّين في حروبِ الآخرين، وأُحرِقَ أسطولُهم البحريُّ، واحتُلَّت مدائنُهم، وانقَسَموا حِيالَ المحتلِّين وانهارت تجارتُهم.
· إثرَ حريقِ سنة 967 في كنيسةِ القيامةِ في أورشليم، نَشبَت معاركُ بين الإخشيديّين السُنّةِ والبيزنطيّين. التزَم اللبنانيّون جانبَ الحِياد في تلك الفترة فوفّروا على أنفسِهم الخضّات.
· سنة 1215، زار البطريركُ الماروني إرَميا العَمْشيتي روما وطلب من البابا التَوَسّطَ لدى ملوكِ وأمراء أوروبـا لضمانِ حمايةِ المَوارنةِ والمسيحيّين في لبنان. فوقَّـعَ القائدُ المملوكيُّ بَـيْـبَرس اتفاقاتٍ مع شقيقِ لويس التاسع، "شارل دانجُو" مَلكِ صِقلّية، ومع "ألفونسو" مَلكِ إشبيلية، ومع "جايمس" ملك أراغون (إمارة سابقة في شمالي شرقي إسبانيا) لَحَظَت عَدَمَ التعرّض لهم ما داموا لا يَتورَّطون بتحالفاتٍ مع أخصامِ المَماليكِ ولا يُخِلُّون بالنظامِ العام.
· إِثرَ تكَاثُرِ المُؤامراتِ على سلاطين المماليك وحُكّامهم في القاهرة ودمشق (1310/1382)، طلبَ بعضُهم مؤازَرةَ قوى لبنانـيّـةٍ ضِدَّ مماليكَ آخرين. فالسلطان الناصر بن محمد استَنجَد بالأمير حسين الشِهابي لاحتلالِ قلعةِ الكَرَك بين حوران والأردن سنة 1322، لكنّ الأخير اعتذر حِرصاً على علاقاتِه مع مماليك المشرق. وسنةَ 1341 سأل مُناهِضو وَرَثةِ السلطانِ قلاوون المملوكي التـنّوخـيّين الدروز وسكّانَ كسروان والجبالِ اللبنانـيّـة الموارنة دَعماً لِدخولِ دمشق فلم يَستجيبوا.
· يذكرُ المؤرخُ الأمير حيدر الشهابي، رَبيب فخر الدين المعنيّ الثاني، أن "الأميرَ فخر الدين الأوّل لم يُشارك فورًا في موقِعةِ مرج دابق سنة 1516، بل آثرَ البقاءَ على الحِياد بين الطرفين المتحاربَين (العُـثمانـيّين والمماليك) حتى يرى لمن ستكون الغلبةُ.
· لدى توقيعِ "اتفاق الامتيازات" سنةَ 1535 بين ملكَ فرنسا فرنسوا الأول والسلطانِ العثمانيّ سليمان القانوني، وَعدت الكنيسةُ المارونيّةُ فرنسا بالبقاءِ على الحيادِ بين السلطنةِ وأخصامِها لقاءَ ضمانِ حريّاتِها في جبل لبنان.
· رغم الاحتلالِ العُثمانيّ، تحاشى معظمُ الأمراءِ اللبنانـيّين، وبخاصةٍ أمراءُ آل مَعّن، تلبيةَ نداءات البابِ العالي للمشاركةِ في الحروبِ العُـثمانـيّـة على جَبهتَي فارس وأوروبـا. وما عدا آل سيفا أحياناً، رفض الأمراءُ المعنـيّون، دون استثناء، التجاوب مع الأوامر التركـيّـة. لا بل كانوا يَـتحيّـنون فرصةَ انهماكِ السلطنةِ بحروبِها حتى يُعزِّزوا نفوذَهم في لبنان والمحيط.
· سنةَ 1799 التزم الأميرُ بشير الشهابي الثاني الحياد بين الجنرال بونابـرت ووالي عكا أحمد الجزّار مع أنّ كليْهما طلبَ مساعدتَه أثناءَ حصارِ قلعةِ عكا. لكنَّ الجزّار لم يَغفر للأميرِ حيادَه إذ اعتبره موقفًا عدائيًّا.
إذا كان الحيادُ سِمةَ مواقف اللبنانيين منذ ما قبل الميلاد، فهو إذًا ملحُ الوجودِ اللبناني. عسى أن تَلتقيَ حولَه اليوم جميعُ الفئاتِ اللبنانيّة حتى يبقى لبنانُ واحِدًا لا ريشةً في مهبِّ رياحِ الأمم. (سننتصر).