#الثائر
ألقى العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
"عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الله سبحانه عندما قال: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد}.
لقد أراد الله من خلال هذه الآية أن يحذر الناس ممن يمنونهم بالوعود المعسولة والكلام العذب، بأنهم سيعملون لصالحهم ولحسابهم ولأجل مستقبلهم، وأنه سيتحقق على أيديهم الخير، حتى يصلوا ويتسلقوا المواقع العليا، ولكنهم عندما يصلون، يعيثون في الأرض فسادا، ويهلكون البلاد والعباد، وعندها لن يتحقق للناس ما يريدون. وبعد فوات الأوان، سيكتشفون الحقيقة، وسيجدون أن لا واقع لكل ما قالوه.
يريد الله للناس أن يكونوا واعين وحذرين من الذين يتقنون فن الكلام والقدرة على التلاعب بآلامهم ومعاناتهم واللعب على جراحهم، بأن لا يلتفتوا إلى عذوبة الكلام وزخرفته، بل إلى خلفية من قال وارتباطاته، وإلى ما يهدف من وراء كلامه، وأن لا يقفوا عند الكلمات، بل أن ينظروا ما وراء الكلمات، وهو ما عبر عنه الشاعر بقوله:
كثر الخداع اليوم في أقوالنا فانظر إلى من قال لا ما قيلا
وبذلك، نكون أكثر وعيا ومسؤولية، وأكثر قدرة على مواجهة التحديات".
أضاف: "البداية من لبنان، الذي استقالت فيه الحكومة بعد أقل من أسبوعين من بدء الحراك الشعبي. ونحن كنا نأمل أن لا تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، وأن لا يقع البلد في الفراغ الذي نخشى آثاره وتداعياته، ولا سيما في هذه المرحلة الصعبة والدقيقة، ولكننا نرى أن الحكومة أعانت على نفسها، وجرأت اللبنانيين عليها عندما لم تقم بمسؤولياتها، ولم تبدأ بالخطوات العملية لتنفذ ما أقرته من إصلاحات، ولم تظهر بمظهر الدولة الحريصة على معالجة ما تعانيه من ترهل داخلي وفساد، وعلى تلبية مطالب مواطنيها الذين خرجوا إلى الساحات، وبدت عاجزة وغير متماسكة، حيث تضج الصراعات بين مكوناتها".
وتابع: "إننا وبعد كل ما جرى، لا نريد أن يكون الخاسر من ذلك هو اللبنانيين ومطالبهم وما خرجوا لأجله، فهم، وللتذكير، لم يخرجوا لتحقيق مكاسب سياسية لهذا الفريق في صراعه مع الفريق الآخر، ولا لقلب الطاولة على أحد، ولا لتغيير النظام فيه، رغم وعيهم بمساوئه. وبالطبع، هم لا يريدون أن تسخر آلامهم ومعاناتهم لحساب أجندات خارجية يخشون منها على حساب من كانوا ولا يزالون قوة لهذا البلد، أو أن يكونوا وقودا في الصراعات الجارية في هذا العالم. هم خرجوا، كما قالوا، ليعبروا عن معاناتهم، عن عجزهم في الحصول على أبسط مقومات العيش الكريم، عن عجزهم عن الاستشفاء، عن عدم قدرتهم على دفع أقساط المدارس، وعن عدم إيجادهم فرص عمل، ليعبروا عن حق المرأة في منح الجنسية لأولادها، وعن ارتفاع أرقام الفقر في مقابل تمركز الأموال بيد فئة من المسؤولين وأصحاب المصارف ورجال الأعمال على حسابهم وحساب مقدراتهم".
وأكد فضل الله "اننا لا نريد لمطالب الناس أن تضيع، ولأصواتهم الصادقة وجهودهم أن تذهب هدرا. ومن هنا، فإننا ندعو هذه الأصوات الصادقة العفوية إلى أن تمسك بقرارها وأن لا تجيره لحساب أحد. ونحن في الوقت نفسه، ندعو الحريصين على هؤلاء الناس إلى أن لا يدعوا آلامهم لقمة سائغة بأيدي من يريدونهم مطية، فمن حقهم أن يشعروا بكرامتهم في هذا البلد، أسوة بكل بلدان العالم.
لقد قلناها أكثر من مرة، إن هذا البلد ليس فقيرا حتى يصبر الناس على فقرهم ويتحملوا شظف العيش فيه، بل هو غني، ولكنه مهدور الثروات، ومنهوب من الذين لا يرون هذا البلد إلا بقرة حلوبا، ويعتبرون الناس فيه مطية لمصالحهم".
وقال: "لذا، ولأننا لا نريد أن يتكرر ما حدث، فنحن نخشى، وسنبقى نخشى، من الشارع، لأننا نعرف أن هناك من يترصدون له لتجيير نزول الناس لحسابات وأجندات خاصة بهم. ومن هنا، ندعو القوى السياسية إلى الاستفادة مما جرى لإجراء مراجعة جادة لسياساتها، وتغيير كل الأساليب والممارسات السابقة في التعاطي مع الشأن العام والاستهتار بمطالب الناس وقضاياها، والكف عن سياسة الوعد والوعيد لكل من يرفع صوته في مواجهتهم، فهناك من لا يزال يفكر في ذلك".
ودعا إلى "اعتماد مناهج وآليات جديدة في إدارة البلد من شأنها أن تعيد الثقة بالقوى السياسية وبالدولة، وعليهم أن يعوا جيدا أن الناس أصبحت واعية، وهي تسمع وتبصر، وأن زمن تخدير الناس ودغدغة مشاعرهم الطائفية والمذهبية والتسلق على ظهورهم من خلال تخويفهم من الطوائف والمذاهب والمواقع السياسية قد ولى، بعدما اكتشفوا أن الجراح والمعاناة والقضية واحدة، وإن اختلفت مذاهبهم وطوائفهم ومواقعهم السياسية".
وقال: "لعل امتحان تشكيل الحكومة الجديدة هو الذي سيظهر مدى جدية هذه القوى السياسية في التعاطي مع مطالب الناس، للتخفيف من معاناتهم ومشاكلهم، ومدى جديتهم في معالجة أزمات البلد المستعصية. والجدية ستظهر عندما يستعجلون بتأليف الحكومة التي نريدها أن تكون حكومة إنقاذ وطني تحفظ حقوق كل المكونات، وتبدد هواجس القلقين من الإقصاء، أو المتوجسين من الرضوخ لضغوط من الخارج الذي لا يخفي مطالبه التي تستهدف فريقا واسعا من اللبنانيين، وأن تحظى هذه الحكومة باحترام الشعب اللبناني، من خلال اشتمالها على شخصيات كفوءة، وخصوصا في ما يتصل بمكافحة الفساد والهم الاجتماعي والاقتصادي الذي ينبغي أن يحتل الأولوية في برنامج الحكومة".
اضاف: "إننا ندرك أننا في لبنان لا يمكن القفز فوق العنوان السياسي في الحكومة لاعتبارات معروفة عند الجميع، ولكن من حق الناس أن تطالب بالأسماء التي تملك الشفافية والنزاهة والأخلاق والمناقبية، وهي كثيرة في لبنان، وإن استبعدتها الحسابات السياسية سابقا. إننا نعرف حجم التعقيدات التي تحيط بالبلد، ولا سيما في ظل نظام طائفي مركب يبدو أن من الصعوبة بمكان تجاوزه دونما عقبات ومخاض سياسي وتشريعي. ونحن في الوقت نفسه، نتوجه إلى الحراك الشعبي لإجراء مراجعة ضرورية للكثير من آلياته وحركته والإجابة عن علامات الاستفهام الكثيرة التي أثيرت حوله".
وختم: "إننا نريد لصوت الشعب أن يبقى حاضرا، أن يراقب ويحاسب، وأن يكون واقعيا وبعيدا عن الشعارات التي تثير الساحة هنا أو هناك، من دون أن تكون ذات جدوى حقيقية، أو تفسح المجال لتدخلات خارجية لكي تحدد مسار الأمور".