#الثائر
- اكرم كمال سريوي
لقد بات تعطيل المؤسسات، بعد انسحاب القوات السورية من لبنان، سمة دورية في الحياة السياسية اللبنانية. فمن تعطيل المجلس النيابي وانتخابات رئاسة الجمهورية، الى تعطيل تشكيل الحكومة، ثم الى تعطيل انعقاد الجلسات، كل هذا اعتاد اللبنانيون سماعه. لكن يبقى سبب التعطيل الأساسي سراً، وان اختلفت الأعذار في كل مرة.
يتساءل المواطنون، هل فعلاً شكلت حادثة البساتين الاخيرة السبب الحقيقي لعدم انعقاد مجلس الوزراء وتوقف العمل الحكومي، في مرحلة اقتصادية حرجة، نحن احوج ما نكون فيها لانطلاق مسيرة النهوض الموعود، والذي انتظرناه طويلاً، منذ بداية عهد الرئيس عون؟ وهل المقصود والمستهدف هو العهد، بعد إنجاز الانتخابات النيابية، وفق قانون انتخاب جديد، ارضى شريحة كانت تشعر بالتهميش، رغم كل ما حُكي ويُحكى عن سلبيات هذا القانون؟ وبعد إنجاز موازنة، يعتبرها فريقي رئيسي الجمهورية والحكومة، وقسم كبير من القوى الاخرى، انها بداية سليمة للإصلاح المالي والاقتصادي؟ ومَن المستفيد من عرقلة الانطلاقة الموعودة للعهد؟ ام ان هناك ثمة من يريد ارساء قواعد جديدة للتوازنات السياسية، قبل انطلاق عجلة الاصلاح؟
يقول احد المقربين من سفير دولة كبرى في لبنان والخبير في تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية، أن سياسة النأي بالنفس التي اعلنتها الحكومة هي شكلية، وان الصراع الدائر في المنطقة له تجلياته على الداخل اللبناني. وان اللبنانيين غير قادرين على عزل أنفسهم عما يدور حولهم، وان ما حصل ويحصل الآن هو من ضمن سياق فرض سيطرة فريق على مفاصل الدولة اللبنانية. ولقد نجح هذا الفريق في فرض إيقاعه على كافة الاستحقاقات الدستورية، بدءاً من قانون الانتخاب، الى فرض مرشحه للرئاسة، ثم ما جرى خلال عملية تشكيل الحكومة وما عرف بعقدة تمثيل اللقاء التشاوري، وأبدى خلال كل هذه المراحل إصراراً وعناداً غير مسبوقين، بحيث وضع معادلة ثابتة، تجسدت بتحقيق مطالبه او التعطيل، مما كان يدفع في كل مرة الى تنازل الطرف الآخر، والقبول بالشروط المفروضة عليه. ومن هذا المنطلق فان الامور ابعد من حادثة معينة بحد ذاتها، فالمطلوب هو إفهام الجميع ان الحل والربط في يد هذا الفريق ، وعلى باقي الفرقاء التسليم بهذا الواقع,
ويرى المصدر ان ما تعرض له الرئيس الحريري في السعودية، وكذلك تضاؤل كتلته النيابية بعد الانتخابات، والمكاسب التي حققها حزب الله والتيار الوطني الحر، وتشتت القوى السنية، إضافة الى ما تم تحقيقه في سوريا، بمساعدة روسية ودعم إيراني، وتراجع الاميركيين والأوروبيين عن دعم الثورة السورية، التي تحولت الى سيطرة منظمات اصولية، مارست ابشع الاعمال الإرهابية، فان كل ذلك جعل الفرصة سانحة لسيطرة فريق الثامن من آذار على مجرى الامور في لبنان. ويقول المصدر انه ومن باب التحليل السياسي فان المطلوب هو ازاحة وليد جنبلاط ، الذي يشكل الحلقة الأقوى في مواجهة هذا المشروع بابعاده الخارجية. ومن الواضح ان النظام السوري لا يخفي عداءه لجنبلاط، ودعمه لأخصامه، خاصة في الجبل وداخل الطائفة الدرزية. ولم ينسَ بعد ان جنبلاط شكل رأس الحربة في اخراج القوات السورية من لبنان عام ٢٠٠٥ ومن هذا القبيل تصبح عملية تعطيل الحكومة تفصيلاً صغيراً، فهذه القوى ليست مهتمة بالوضع الاقتصادي في لبنان، بقدر ما هي مهتمة بالسيطرة على القرار السياسي فيه. واذا ما نجحت في ازاحة جنبلاط، او اضعاف دوره وتحجيمه كمرحلة اولى، سيسهل عليها بعد ذلك محاصرة سعد الحريري، وإخضاعه تماماً، او حتى التخلص منه فالبدائل السنية ربما تكون جاهزة في المرحلة المقبلة، فيما ستكون القوى المسيحية المعارضة ضعيفة وغير قادرة على المواجهة,
ومن هنا يصبح واضحاً اصرار الامير طلال ارسلان، على مطلب احالة حادثة البساتين الى المجلس العدلي، ويعرف الجميع انه غير قادر منفرداً على تعطيل العمل الحكومي، لكن من يقف خلفه يصر على تحقيق نصر سياسي. وبالرغم من موافقة رئيس الجمهورية، على اقتراح رئيس مجلس النواب، احالة الملف الى المحكمة العسكرية، انطلاقاً من حسه بالمسؤولية والرغبة في اطلاق ورشة العمل الحكومي، في هذه الظروف الاقتصادية الضاغطة، إِلَّا انه يبدو ان الامور ما زالت معقدة .
ويعلم العارفون بالقانون، ان المحكمة العسكرية بالرغم من الانتقادات التي توجه اليها على انها محكمة استثتائية، فهي من افضل المحاكم اللبنانية، ويشهد من يدخل الى قاعاتها، خاصة الإعلاميين، على شفافية ونزاهة العاملين فيها، حيث لا مكان للرشوة، او لفقدان الملفات وضياعها، كما حدث في عدة دوائر قضائية اخرى. وان المحكمة العسكري تنظر في اكثر من مئة دعوى أسبوعياً، وهي بالتالي من اكثر محاكم لبنان نشاطاً وإنتاجية ، وتلتزم تطبيق قانون أصول المحاكمات الجزائية بالكامل، فلم تتم محاكمة اي شخص، دون احترام حقه بالدفاع واختيار من يشاء من المحامين. ولمن يعتقد انها توفر حصانة للعسكريين، فمن يستطلع رأي العسكريين يعلم انهم اكثر ما يخشونه هو المحكمة العسكرية، نظراً لصرامتها في تطبيق العقوبات بحق المخالفين منهم، اضافة الى العقوبات المسلكية التي تتخذ بحقهم من قبل قيادات اجهزتهم. ونعلم جميعاً ان المحكمة العسكرية وفي حوادث عديدة، شهد لها الجميع بعدالة وسرعة التحقيقات، والنظر في الدعاوى وإصدار الاحكام. ومن هنا فإذا كان الهدف في حادثة البساتين، الوصول الى العدالة، يجب عدم التشكيك في قدرة المحكمة العسكرية على تحقيق ذلك، ويجب تسليمها كافة المطلوبين، ليصار الى استكمال التحقيقات، فلا يجوز المطالبة بالعدالة من جهة ورفض التعاون مع القضاء وتغطية المرتكبين، وعدم السماح بإجراء التحقيقات اللازمة معهم من جهة ثانية. لانه في هذه الحالة يبدو الامر اشبه بإصدار الاحكام المسبقة، من فريق سياسي بحق فريق آخر ، وتتحول معه المطالبة بالمجلس العدلي، الى اتهام لهذا المجلس، بانه محكمة عرفية، سيتم تعينه وإحالة القضية آلية، لمحاكمة فريق معين، بهدف الاقتصاص من هذا الفريق، وهذا ما لن يقبله عاقل.
وتتوقع بعض المصادر المطلعة، ان الرؤساء الثلاثة، هم على قناعة بضرورة قبول جميع الأطراف بإحالة ملف حادث البساتين الى المحكمة العسكرية، وان الاوضاع الراهنة لا تحتمل الانتظار الى ما لا نهاية، كما كان يحصل سابقاً، خاصة ان وليد جنبلاط قدم كل تعاون مع القضاء، وان موقفه بات نابعاً، ليس من الالتفاف الشعبي حوله، والدرزي بشكل خاص فقط، بل من الدعم السياسي الذي تلقاه من عدة حلفاء، داخليين وخارجيين، يرفضون تسليم لبنان الى فريق معين، وازالة المعارضة وتحويل لبنان من نظام تعددي ديمقراطي، الى حكم ائتلاف واحد، ملحق بمحور إقليمي معين.