#الثائر
- اكرم كمال سريوي
على مدى ثلاثة ايام أُشبعت الموازنة درساً وتفصيلاً، وتم الطعن بها سياسياً امام محكمة الرأي العام، لكسب الشعبية والتنصّل من المسؤوليات، وكان واضحاً انها بمعظمها خطابات سياسية، تفتقر الى الدقة والمعرفة الحقيقية بالأنظمة والقوانين.
في النظام الجمهوري، يُمثل المجلس النيابي السلطة التشريعية المولجة بسن القوانين، ومراقبة اعمال الحكومة لجهة تطبيقها، ولكن كيف لمن ليس لديه المعرفة الكافية بالقانون، أن يُشرّع ويضع قوانين سليمة؟
من يدخل الى اروقة المجلس ويراقب كيفية العمل، سيجد ان معظم النواب لا يقرأون مشاريع القوانين التي تُعرض على المجلس، ومعظمهم في الحقيقة ولو قرأها لن يُحدث فرقاً، لانه يفتقد في الاساس الى الخبرة القانونية، وهو فقط سيُعلّق عليها من وجهة نظر سياسية، اي استناداً الى الجهة التي قدّمت المشروع، وإمكانية استثمار الموافقة او الرفض في السياسة وكسب التأييد الشعبي، وربما لهذا السبب من الأصح ان نسمي هذا المجلس، بالمجلس السياسي، فهو إضافةً الى افتقاره للمشرعين الحقيقيين، لا يمثل سوى اقل من ثلث الناخبين اللبنانيين والبالغ عددهم 3,746,483 ناخباً، فيما مجموع الاصوات التي نالها نواب المجلس يبلغ 1,234,350 صوتاً، ولقد عمد المجلس الى مخالفة الدستور مرات عديدة ، ويبرر ذلك دائماً بنظرية تسوية الخلافات السياسية، ولن ندخل في تكرار ما قاله النواب عن المخالفات، لكن سنذكر ما لم يذكروه في مطالعاتهم .
يستند إعداد الموازنة الى قانون المحاسبة العمومية الصادر عام 1963 وتعديلاته اللاحقة، واهم ما في ذلك ما نصت عليه المادة الثالثة من سنوية الموازنة، بحيث يتم وضعها لسنة مقبلة، وهذا يعني ببساطة ان كل احكام ونصوص الموازنة تُصبح لاغية بعد انقضاء مهلة السنة. وبمعنى اوضح انه لا يجوز للحكومة ان تستمر في جباية رسوم او ضرائب، نص عليها صك الموازنة بعد انقضاء مهلة السنة اذا لم تكن هذه الضرائب والرسوم قد نص عليه قانون خاص، وربما من المفيد التذكير بالمرسوم رقم 144الصادر بتاريخ 1959/12/6 الذي تم من خلاله تعديل النظام الضريبي في لبنان، ثم التعديل الهام في نهاية عام 1993 .
وغريب اصرار المجلس النيابي، والحكومة ، على جعل الموازنة أم القوانين، بحيث يمكن من خلالها تعديل عدة قوانين في آن واحد، وهذا بالطبع يُشكّل مخالفة للقانون والدستور .
ان الديمومة والاستمرارية هي من اهم خصائص القوانين، وتهدف دائماً الى تحقيق العدالة والاستقرار لدى الأفراد في المجتمع، لذلك اذا كان لا بد من تعديل النظام الضريبي في لبنان، فأن المجلس مدعو الى تعديله بقانون جديد، وليس عن طريق صك الموازنة السنوية، فيصبح المواطن ينام على ضريبة ليصحو على ضريبة اخرى .
تعتمد الدول المتقدمة صناعياً نظام سمي بالضغط الضريبي المرتفع، اما الدول النامية فتعتمد نظام الضغط الضريبي المنخفض، وهنا لا بد من الإشارة الى ان هذا يُشكّل صراعاً بين الاتجاه الاشتراكي، الداعي الى تدخل كبير للدولة، والنظام الليبرالي الذي يدعو الى لعب الدولة دور الشرطي فقط. ومن هذا المنظار يمكن وصف النظام الاقتصادي اللبناني، بالليبرالية الزائدة. ففي حين اتجهت دول عريقة في الرأسمالية، الى زيادة تدخل الدولة، حتى باتت شبه اشتراكية، بهدف تأمين الرفاه والعدالة لمواطنيها، ما زال بعض الأطراف في لبنان، يرفضون المس بالنظام الضريبي الحالي .
من ناحية اخرى، لا شك ان زيادة الضرائب تؤدي في معظم الأحيان الى انكماش اقتصادي، خاصة في الدول النامية، وتلك التي تعتمد اقتصاد ريعي غير منتج وكنا ذكرنا سابقاً في الثائر ان الضرائب ستكون ذي حدّين، ويجب الانتباه الى هروب رؤوس الأموال والمستثمرين ، اذا تم رفع بعض الضرائب بصورة عشوائية. فالأفراد يبحثون عن مصالحهم في عالم بات مفتوحاً، وهذا ما عانى منه مثلاً، اقتصاد بعض الدول المتقدمة، حينما ذهبت رؤوس الأموال والمصانع منها باتجاه دول اخرى، حيث اليد العاملة أرخص والتسهيلات الاستثمارية افضل، كالصين والهند والمكسيك وغيرها .
وبغض النظر عن مسألة قطع الحساب، وغيرها من مخالفات في الموازنة للدستور اللبناني، فان المعارضة الكبيرة لها من قبل النواب، والفئات الشعبية خاصة المتقاعدين من عسكريين ومعلمين وغيرهم، جعلها تبدو موازنة هشة لا تثق بها حتى الحكومة نفسها .
وبالطبع يحق للمواطنين خاصة العسكريين المتقاعدين الذين قدموا التضحيات في سبيل دولتهم ووطنهم، ومثلهم رفاقهم في الخدمة الفعلية، ان يسألوا هذه الحكومة عن سبب بحثها عن القرش في جيوبهم، بينما هي ساكتة عن مزاريب الهدر والفساد؟ وكيف يحق لهذه الحكومة ان ترصد الأموال الطائلة، لارضاء زوجات بعض السياسيين، وجمعياتهم التي يستغلون بها الشعب، بأموال الدولة، وتدفع رواتب مضاعفة تفوق حتى باضعاف راتب رئيس الجمهورية اللبنانية، لموظفين في الإدارات العامة، من اوجيرو الى المصرف المركزي وغيره، وتدعم مباشرة او عن طريق البلديات، بملايين الدولارات جمعيات المنافع الشخصية، كجمعية تحسين نسل الحصان العربي وغيرها، وتعترف بعدم ضبط الحدود لان المعابر محمية من بعض الأطراف السياسية المشاركة في الحكومة، وتذهب في نهاية المطاف الى الاقتطاع من رواتب العسكريين والمتقاعدين، الذين بالكاد يستطيعون ان يملكوا منزلاً يأوون اليه، في وطنٍ دافعوا عنه ويفدونه بارواحهم .
واذا كان بعض النواب قد تنبّهَ، الى ان الانتخابات قادمة، وان العسكريين وباقي المتقاعدين وعائلاتهم لن ينسوا من طعن بهم، وسيحاسبون هؤلاء النواب في صناديق الاقتراع، وهم وعائلاتهم يمثلون كتلة ناخبة كبيرة في مختلف المناطق اللبنانية، فأن من واجب الحكومة ان تعمل على تحقيق العدالة، والحفاظ على المصلحة العامة، بمكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، واذا لم تكفِ حينها الأموال ستجد الحكومة ان العسكريين اول من يضحي من دمه وجيبه فداءً للوطن .
ان سكوت كافة الأطراف عن ذلك، وعدم تقديم طعن بالموازنة الى المجلس الدستوري، ينم عن تواطؤ السلطة في انتهاك الدستور، وجعل الموازنة ام القوانين وأب الدستور وربما عن غير قصد، فيكون لبنان خاضعاً لقوانين ظرفية، تتغير سنوياً وفقاً لظروف المرحلة والأهواء السياسية، مما ينسف مفهوم الدولة، التي تعطلت مؤخراً، بسبب اصرار البعض على تحقيق نصر سياسي، عبر تحويل حادثة أمنية الى المجلس العدلي، بغض النظر عن أهميتها او معطياتها القانونية او حتى النتائج المرجوة من هذه الإحالة. فهل يُجدي بعد كل ذلك اجراء مطالعات في القانون والدستور، والبكاء على أطلال الطائف؟