#الثائر
- اكرم كمال سريوي
في عام ١٩٤٦ تقدم النائب يوسف كرم، باقتراح قانون الغاء المجلس العدلي كمحكمة استثنائية، لانتفاء الأسباب التي أدت الى إنشائه. وعندما طُرح الامر على التصويت، وافق عليه معظم نواب المجلس، لكن رئيس الجمهورية آنذاك الشيخ بشارة الخوري، أعاده الى المجلس النيابي، لتتم التسوية بعدها بحيث اكتُفي بتقليص صلاحياته فقط، وليستمر وجوده كمحكمة استثنائية حتى يومنا هذا. فما الذي يميز هذه المحكمة؟ ولماذا المطالبة بإحالة معظم الدعاوى اليها؟ وآخرها حادثة قبر شمون .
يتألف المجلس من الرئيس الاول لمحكمة التمييز ( رئيساً )، وأربعة قضاة من محكمة التمييز ( أعضاء )، يعينون بمرسوم في مجلس الوزراء، ويُعين قاض احتياطي، ليحل محل احد الأعضاء في حال الوفاة، ويختص المجلس، في الجرائم المرتكبة على امن الدولة الداخلي والخارجي، والإرهاب، وتشكيل العصابات المسلحة، والفتنة التي تدعو المواطنين الى حمل السلاح وتحرّضهم على بعضهم البعض، ولقد تم تعداد هذه الجرائم في القانون الجزائي، من المادة ٢٧٠ حتى المادة ٣٣٦ من قانون العقوبات، اضافة الى جرائم الرشوة وصرف النفوذ والاختلاس وغيرها، مما جعل صلاحياته، تتداخل مع صلاحيات المحكمة العسكرية، وتفتح الباب واسعاً لإحالة العديد من القضايا اليه، بسبب غموض النص ، واتساع مجاله. امّا اهم ما يميز هذا المجلس فهو:
أولاً: تحال الدعاوى الى المجلس العدلي، بمرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء، فهو لا يحق له ان يضع يده على الدعوى بدون هذا المرسوم. وهذا ما جعل الانتقادات تُوجه اليه باعتباره محكمة سياسية، تستعملها السلطة للاقتصاص من الخصوم، او لارضاء أهل الضحية، اكثر مما يكون الهدف هو تحقيق العدالة. فعملية احالة الدعاوى تخضع للانتقائية، وتحكمها الاعتبارات السياسية، اكثر من الاعتبارات الموضوعية وأهلية الدعوى. وكانت منظمة العفو الدولية، قد انتقدت وجود المجلس العدلي في لبنان، على خلفية محاكمة قائد القوات اللبنانية سمير جعجع، الذي أوقف بتهمة تفجير كنيسة سيدة النجاة، ثم تبين انه بريء من هذه التهمة، لكن اصرّت السلطات على توقيفه، وتمت محاكمته بتهم اغتيال حدثت خلال الحرب، وقبل صدور قانون العفو العام عام ١٩٩١ .
ثانياً: يتولى التحقيق في القضايا المحالة امام المجلس العدلي، قاضٍ يعينه وزير العدل، بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى، وقد جرت العادة في لبنان ان تُراعى المذهبية في هذا التعيين، بما يُرضي أهل الضحية، وهذا يجعل المزاجية والاستنسابية تدخل الى القضاء، لتبعده عن الاستقلالية والتجرد. ولكن الأهم من الناحية القانونية، ان المحقق العدلي هنا يتمتع بصلاحيات واسعة، تمكّنه من عدم التقيد بمدة التوقيف التي ينص عليها القانون في القضاء العادي، وهي محددة بستة اشهر كحد أقصى، فهو يستطيع ابقاء المتهم موقوفاً لسنوات، ودون محاكمة، كما يحق له ان يُصدر كافة المذكرات التي يقتضيها التحقيق، بما فيها التوقيف دون الرجوع الى النيابة العامة، وتمتد صلاحياته ايضاً الى استدعاء اي شخص، حتى ولو لم يرد اسمه في قائمة المدعى عليهم، كما يُؤخذ على المجلس العدلي، ان الاتهام يتم دون الرجوع الى الهيئة الاتهامية الغير موجودة لديه أصلاً.
ثالثاً: المعضلة الاساسية التي تُعرّض المجلس العدلي للانتقاد، هي انه يُخالف قاعدة الدرجات الثلاث للمحاكمة المعتمدة لدى القضاء العادي، والتي تسمح للمتهمين بأستئناف الاحكام، والتمييز، خاصة في حال ظهور ادلة جديدة. فان قرارات المجلس العدلي غير قابلة لأي طريق من طُرق الطعن او المراجعة، ولكن بعد الحادثة الشهيرة، التي حُكم فيها على الفلسطيني يوسف شعبان بالسجن المؤبد، في جريمة اغتيال الدبلوماسي الأردني نائب عمران المعايطة، ثم تبين انه بريء، بعد ان كشفت السلطات الأردنية عن الجناة، وقامت بمحاكمتهم، تم تعديل المادة ٣٦٦ من قانون أصول المحاكمات الجزائية بموجب القانون رقم ٧١١تاريخ ٢٠٠٥/١٢/٩، بحيث اصبح بالإمكان تقديم الاعتراضات على احكامه، وإعادة المحاكمة امام المجلس العدلي نفسه فقط. وهذا بالطبع ما زال من وجهة نظر المنظمات الدولية، يِشكل خرقاً لحقوق الانسان .
رابعاً: عندما صدر قانون العفو العام ، استُثني منه الأحكام الصادرة عن المجلس العدلي، فاعتبر الكثير من الحقوقيين والمنظمات الدولية، ان في ذلك إساءة الى مبدأ العدالة وحقوق الانسان، كما ان هذا يُثبت الطابع الاستثنائي للمجلس العدلي، كمحكمة خاصة ليس بجرائم معينة، بل بطبقة سياسية واجتماعية معينة، مما دفع بالبعض الى وصف احالة الدعوى الى المجلس العدلي، بوسام ترضية لأهل الضحية .
خامساً: عندما سُئل الرئيس سعد الحريري عن احالة قضية قبر شمون الى المجلس العدلي، رد متسائلاً عما حققه هذا المجلس في القضايا التي أحيلت اليه؟ وهي عديدة بالطبع بدءاً من قضية اغتيال كمال جنبلاط، ورينه معوض، والسيد موسى الصدر، الى تفجيرات بئر العبد، والرويس، والمستشارية الأيرانية، وطرابلس، واغتيال عدد كبير من الشخصيات السياسية اللبنانية، وكل هذه القضايا بقيت دون نتائج ملموسة حتى اليوم، وبالتالي فهذا يُثبت مرة جديدة ان احالة الدعوى الى المجلس العدلي هي ترضية سياسية، قد تفتح الباب امام خرق لحقوق المواطنين، وانتقادات الهيئات الدولية الراعية لحقوق الانسان.
ولا بد من التساؤل بالطبع لماذا ما زال البعض يطالب بإحالة الدعاوى الى المجلس العدلي؟ رغم العلم بإخفاقات هذا المجلس، كمحكمة قادرة على تحقيق نتائج سريعة في القضايا المحالة اليها؟ هل السبب هو الرغبة في استعمال القضاء لتصفية حسابات سياسية؟ ام الرغبة بتقديم ترضية إعلامية، وإعلانية وغير حقيقية، لاهالي الضحايا من اجل الاستغلال الساسي والانتخابي؟ ثم انه لماذا لا يثق السياسيون بالقضاء العادي؟ فيما يطلبون من عامة الشعب والمواطنين الثقة به، واللجؤ الى هذا القضاء؟
من الحري بنواب الأمة والقادة السياسيين، السعي الى رفع شأن العدالة، وتحسين القضاء، وإعطائه المزيد من الاستقلالية والحصانة، اضافة الى مواكبة الرقي والتطور في القوانين والممارسات، التي تحترم حقوق الانسان والمساواة بين المواطنين، وإلغاء المحاكم الاستثنائية، وتنظيم القضاء على أسس، تحترم كافة المعايير الانسانية التي نصت عليها الاتفاقات الدولية، وفي الأصل طبعاً احترام الدستور اللبناني، الذي ينص على مساواة جميع المواطنين امام الأنظمة والقوانين. كما من واجب الجميع تعزيز الثقة بالقضاء العادي بدرجاته الثلاث، وإدراك ان اي تجاوز لهذا المبدأ، هو اعتداء على حقوق المواطنين، وليس تحصيلاً لحقوقهم وشكلاً من أشكال الخداع والاستغلال، والتجاوز والخرق لمبدأ العدالة وحقوق الانسان.