#الثائر
- اكرم كمال سريوي
يعلم الجميع ان لبنان عانى وما زال يعاني من أزمة حكم. فمنذ ارساء قاعدة النظام الطائفي، ترسّخ الانقسام المذهبي، وازداد التعصب داخل المجتمع اللبناني، وبرزت الزعامات الطائفية على حساب الزعامات الوطنية. وأصبحت مصلحة الطائفة تتقدم على مصلحة الوطن، وتعلوها مرتبة، في أولويات الزعماء والمسؤولين.
أرسى اليمين الفرنسي نظام الامتيازات الطائفية في لبنان، استناداً الى الانقسام الذي حدث في عهد المتصرفية، وما سبقها من احداث أليمة. وعندما وصل اليسار الى الحكم في فرنسا، عين الجنرال العلماني موريس ساراي مفوضاً على لبنان، فقام بعدة إجراءات، أغضبت الكنيسة المارونية. واهمها الغاء نظام الانتخاب على أساس طائفي، واستبداله بنظام على أساس النسبية وخارج القيد الطائفي، وأصدر عدة قرارات اصلاحية هامة، يعود الفضل فيها، الى امين عام المفوضية الفرنسية حينها روبير ديدي كيه (١٩٢٤ ) ولكن مشروع ساراي سقط امام مطالبات الكنيسة وإصرارها بالإبقاء على النظام الطائفي، باعتباره ضمانة للوجود المسيحي في لبنان.
منذ ذلك الحين، يتمسك بعض المسيحيين بهذه النظرية. وبالرغم من بروز عدد كبير من الشخصيات العلمانية المسيحية، إِلَّا ان العصبية الطائفية، بقيت طاغية، بسبب هاجس الخوف من الذوبان في المحيط الاسلامي، والنزعة المتشددة لدى بعض الفرق الاسلامية، وخصوصا الزعماء المطالبين بالوحدة مع المحيط العربي، وازدادت بالطبع مع بروز الأصولية الاسلامية .
ولهذه الأسباب عانى لبنان من أزمات متلاحقة، كانت تنتهي دائماً بتسويات، يتداخل فيها المحلي مع الإقليمي والدولي، فتُنتج اتفاقات مرحلية، غير كافية للإصلاح، تشوبها العيوب والثغرات.
فمنذ ميثاق ١٩٤٣ الى ثورة ١٩٥٢ وثور ١٩٥٨ وانفجار الحرب الأهلية عام ١٩٧٥ وانتهائها باتفاق الطائف، لم تصمد التسويات، ولم يتمكّن اللبنانيون من بناء وطن، تسوده العدالة والمساواة، ويحفظ حقوق جميع المواطنين. ولهذا نرى هذا الشعور بعدم الرضى، لدى مختلف فئات الشعب اللبناني، الذي بات يعلم، انه هناك قلة في كل مذهب، هي المتحكمة والمستفيدة من نظام المحاصصة والامتيازات الطائفية، وتستغله للوصول الى تحقيق مآرب شخصية، توصلها الى مراكز السلطة والنفوذ في الدولة.
فالدولة اللبنانية تهتم فقط بموظفيها، تاركةً باقي فئات الشعب. فمِنح التعليم والطبابة والاستشفاء والإسكان، هي حقوق شبه حصرية لموظفي القطاع العام، واما الوظائف فهي حصرية لاتباع الزعماء والمسؤولين، تُوزّع كجوائز ترضية، بعيداً عن الكفاءة او المصلحة العامة والحاجة الإدارية، مما جعل خزينة الدولة والإدارة تعاني ما تعانيه.
فالمواطن غير الموظف، عليه ان يدفع التكاليف الباهضة لتعليم أولاده في المدارس الخاصة، التي تضم اكثر من ٨٠٠ الف تلميذ من اصل ما يقارب المليون تلميذ في لبنان. ومن ثم عليه تأمين الأموال للتعليم العالي، والتخصص، الذي تفوق تكلفته في لبنان، اضعاف هذه التكلفة، في عدة دول اخرى، مثل فرنسا وألمانيا ورسيا واوكرانيا وغيرها. وهنا يتساءل المواطن اللبناني، اين هي حقوقه أكان مسيحياً ام مسلماً؟ اين حقه بالفرص المتكافئة للوظائف العامة؟ اين حقه كمواطن لبناني، عندما يكون الانتماء المذهبي، هو العامل الاول في الحصول على هذه الوظيفة او المركز؟ اين حقه اذا كان مجبراً على التبعية والاستزلام، لهذا الزعيم او ذاك كي يدخل الجنة الوظيفية، لانها حكراً اقطاعياً مذهبياً؟ اين حقه بالعمل والطبابة والتمتع بقيم الكرامة والحرية والديمقراطية، وهو معرّض للإذلال، في كل شاردة وواردة في دولته العظيمة، التي ينخرها الفساد والطائفية ؟
لا يخفي البعض اليوم، رغبته في الانقلاب على تسوية الطائف. فهناك طرف يعتبرها تنازلاً عن صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني، وامتيازات كانت للمسيحين وقد جرى التنازل عنها، ويجب استعادتها. فيما يرى طرف آخر، انها مجحفة بحقه، فاستناداً الى مبدأ الديمقراطية العددية يحق له بأكثر من حصته الحالية. وبين الاثنين يقف طرف وسطي، يدعو الى التمسّك بهذه التسوية، ويرى ان الحل الأسلم، هو بتطبيق كامل بنودها، لان اي بحث آخر سيعيد الامور الى مرحلة الصدام والانقسام، الذي لن يجلب سوى مزيد من الخراب، والتدهور السياسي والاقتصادي. وبينهم جميعاً، يقف المواطن اللبناني عاجزاً، لانه مكبلٌ بقوانين وانظمة، جعلته سجين التعصب المذهبي والمناطقي وحتى العشائري والعائلي، فبات إمّا مهاجراً يتوق الى ان يرى وطنه كتلك الدول الراقية التي لجأ اليها، وإما ذليلاً تابعاً في وطنه، يحلم بالحرية والعدالة والمساواة، فيما يُصرّ بعض المسؤولين، على شحنه يومياً بشتى مشاعر التعصب والطائفية والحقد والبغضاء ، حتى صار لا يرى في جاره سوى عدو، اذا كان من غير مذهبه وطائفته.
لم يُقدم اتفاق الطائف حلولاً كافية، وإلا فكيف نُفسّر بقاء الدولة بلا رئيس للجمهورية، او حكومة، لعدة اشهر او سنوات؟ وكيف نُفسر تضارب الصلاحيات، وسهولة تجاوز الأنظمة والقوانين؟ كيف نُفسر ما تتخبط به الدولة، في قراراتها وعلاقاتها الدولية وعجزها عن الكثير من الإجراءات التي يجب ان تقوم بها؟ كيف نُفسّر عدم قُدرة الدولة على بسط سيادتها على كامل أراضيها ومواطنيها ؟
الا يكفي كل هذا، لأن نعترف ان لبنان يعاني أزمة حكم ؟!!! وألا يكفي كل هذا لاعتراف الجميع، بأن هذا النظام الطائفي لم ولن يجلب سوى المزيد من الفساد والخراب والأزمات ؟
وأين هي حقوق المسيحيين او المسلمين، اذا حصلت قلة قليلة منهم، على مراكز او وظائف الدولة، وتنعّمت بامتيازات وخيرات الوطن، فيما الأكثرية الساحقة منهم، تفتقر الى ابسط حقوق الانسان، وتُحرم من حقها بالعيش، في وطن يحترم قيم العدل والحرية والمساواة، وحقهم ان يعتبرهم حكامه مواطنين، وليسوا رعايا او قطعان، تُساق وتُستعمل وفق رغبات ومصالح المسؤول ؟؟؟
ان رغبة البعض اليوم في الانقلاب على الطائف، تُشكّل خطراً حقيقياً، لانها نابعة من حسابات مذهبية وطائفية. فإذا اعتبر البعض في مرحلة ما، انه قادرُ على تعزيز دوره وصلاحياته، بالاستناد الى امتيازات مذهبية، او زيادة عدد مناصريه ومحازبيه، عن طريق التعصب الطائفي، فهو قد ينجح في ذلك، لكن سيكون هذا على حساب الوطن. ولقد عدد ابن خلدون أسباب انهيار الدولة وانحلالها، وأبرز تلك الأسباب، هو الانقسام والتشرذم، فكيف اذا كان الانقسام مذهبي وطائفي؟ ثم انه وفقاً لقانون عالم الفيزياء الشهير نيوتن، فانه يوجد لكل فعل رد فعل، معاكس في الاتجاه وموازٍ في القوة، اي ان التعصب لن يجلب سوى التعصب، واما الفوقية والتمسك بالامتيازات الطائفية، هي ظلم للآخرين، والظلم لا يجلب سوى الثورة.
حبذا لو كانت دوافع المطالبة بتعديل الطائف وطنية، وكم يتوق كل مواطن لبناني، ان يرى لبنان دولة حقيقية متقدمة وراقية. ولو قُدّر للبنانين، الخروج من عقال هذا النظام الطائفي، لجعلوا لبنان جنةً حقيقية، تزخر بالفكر والعطاء والقيم، لكن الواقع المرير ان من يُمسك بزمام الامور ، ما زال غارقاً في الطائفية والتعصب، ويمتطي هذا الفكر الأعمى، لبلوغ غاياته ومصالحه الشخصية، حتى ان بعض هؤلاء لا يُدرك خطر هذه الرعونة ، ويغامر في هدم تسوية، أنهت حرباً راح ضحيتها آلاف الشهداء، ودمرت لبنان وخرّبت اقتصاده، فهل يجوز لهؤلاء ان يُقامروا من جديد في مستقبل هذا الوطن، وهو ما زال يعاني مرارة الفوضى واللادولة ؟؟؟