#الثائر
- الخوري كامل كامل
في أواخر القرن الثامن قبل المسيح عاش النبي هوشع تجربة عائلية مريرة، تزوج من إمرأة تدعى جومر أنجب منها ثلاثة أبناء فأطلق عليهم هوشع أسماء غريبة في معناها ترمز إلى خيانة زوجته له وبيع نفسها في أسواق البغاء. فأطلق على ابنه البكر إسم "يزرعيل" الذي يعني الدينونة للتذكير بيوم الحساب الرهيب والمرعب. وأطلق على المولود الثاني وهي فتاة إسم "لورحامة" ومعناها "غير مرحومة" أو "لا رحمة بعد الان". أما المولود الثالث وهو صبي فأسماه "لوعمي" ومعناه "ليس بشعبي" وكأن الله تبرّأ من شعبه.
لا أحد يستطيع أن يتصوّر الأذى النفسي لهؤلاء الأطفال في كل مرة تذكر أسماؤهم على ألسنة الناس بسخرية واشمئزاز: "دينونة" تعال نلعب، "غير مرحومة" خذي الطابة، "ليس شعبي" ساعدني في حمل الاغراض!!!
والمسألة الأصعب أن النبي هوشع يعظ عن الطهارة ومتزوج من عاهرة، وهو رجل الله بامتياز، يعيش بتقوى ومخافة الله ومتزوج من إمرأة زانية. كيف استطاع هوشع أن يتحمل "تعيير " الناس له ولأبنائه؟ كيف تحمّل ألم الخيانة؟!!!
في الواقع اختبر هوشع أسوأ أنواع الخيانة، فإذا كان البغاء من أجل المال يجرّد المرأة من كرامتها وإنسانيتها، فامرأة هوشع دفعت الاموال لمن زنت معهم، فانغمست في الخطيئة بوقاحة قاتلة.
"كل الزواني يعطون هدية، أما أنت فقد أعطيت كل محبيك هداياك، ورشيتهم ليأتوك من كل جانب للزنى بك، وصار فيك عكس عادة النساء في زناك، إذ لم يزن وراءك، بل أنت تعطي أجرة ولا أجرة تعطى لك، فصرت بالعكس"(حزقيال ١٦ / ٣٣)
لا أحد يحسد هوشع على هذا الموقف المحرج، فكيف إذا طلب الرب منه أن يغفر خطيئة زوجته الزانية ويجدد عهد الحب معها؟!! هذا ما فعله هوشع طائعاً منطق الحب "لكِنْ هأَنَذَا أَتَمَلَّقُهَا وَأَذْهَبُ بِهَا إِلَى الْبَرِّيَّةِ وَأُلاَطِفُهَا، وَأُعْطِيهَا كُرُومَهَا مِنْ هُنَاكَ ... بَابًا لِلرَّجَاءِ... وَأَقْطَعُ لَهُا عَهْدًا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ ... وَأَكْسِرُ الْقَوْسَ وَالسَّيْفَ وَالْحَرْبَ مِنَ الأَرْضِ... وَأَخْطُبُكِ لِنَفْسِي إِلَى الأَبَدِ. وَأَخْطُبُكِ لِنَفْسِي بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ وَالإِحْسَانِ وَالْمَرَاحِمِ. أَخْطُبُكِ لِنَفْسِي بِالأَمَانَةِ فَتَعْرِفِينَ الرَّبَّ." (هوشع ٢ / ١٦ - ٢١).
إن خيانة زوجة هوشع له هي رمزية، تشبه خيانتنا لله، رغم ذلك هو يحبنا ويغفر لنا ويرحم ضعفنا، ويعطينا إمكانية البدايات الجديدة، فهو يحبنا رغم كراهيتنا له، ويحبنا رغم قلة أمانتنا، يحبنا مجاناً، فلا شيء نقدمه له، ولا نستحق محبته... رغم ذلك يحبنا، حتى أنه بذل نفسه على الصليب من أجلنا.
وبالامس تجلت صورة الرحمة هذه في بكركي، فصعد إليها نادماً من احتقرها، راكعاً على قبر المثلث الرحمات البطريرك مار نصرالله بطرس صفير طالباً منه الغفران من عليائه، واضعاً باقة زهور جميلة بدل كلماته القذرة، جالساً بالقرب من سيد الصرح البطريرك الكاردينال الماروني مار بشارة بطرس الراعي نادماً وطالباً بروح بنوية الصفح والغفران.. فكان له ما تمناه.
إنها الكنيسة، الام والمعلمة، تحضن وتربي، تؤنب وتسامح، تشير إلى الخطأ بحزم وتتقبل بفرح العودة عنه... فيتحول "يزرعيل" من أرض تنبت الموت إلى أرض تلد الحياة، وتُرحم "الغير مرحومة" وينادى "ليس بشعبي" أنت شعبي وهو يقول :"أنت الهي".(يشوع ٢ /٢٥).