#الثائر
احيت الطوائف المسيحية التي تتبع التقويم الغربي يوم الجمعة العظيمة، وأقامت جامعة الروح القدس - الكسليك، قبل ظهر اليوم، رتبة سجدة الصليب التي ترأسها الرئيس العام للرهبانية المارونية الاباتي نعمة الله الهاشم بحضور رئيس الجمهورية العماد ميشال عون واللبنانية الاولى السيدة ناديا الشامي عون، حيث اعتبر الاباتي الهاشم في عظته ان مسيرة "الأخوّة الإنسانيّة" التي يقود قداسة البابا رسالتها في العالم مع مختلف الشعوب ومختلف الأديان، تلاقيها مبادرة الرئيس عون في جعل لبنان بلد التلاقي والحوار الإنساني، متوجهاً الى رئيس الجمهورية بالقول :"جميعنا نصلّي، إذ نتلمّس الزخم الذي تظهرونه والذي تدعون اليه من اجل ترسيخ الانطلاقة الجديدة للعهد، العهدِ بالمعنيين: معنى الفترة الزمنية لتحمّلكم للمسؤوليّة، والعهد الآخر الذي تحملونه في القلب وتعبّرون عنه في مجالسكم، إنّه العهد الذي قطعتموه تجاه شهداء لبنان، أي الوعد بإكمال المسيرة من أجل غدٍ أفضل للبنان، الوطن الذي استشهدوا لأجل أن يبقى ويعيش فيه أهلهم وعائلاتهم بكرامة. إنّنا نرافقكم بصلاتنا وبقدراتنا من أجل أن تنجح مسيرة الخير في عهدكم ومن أجل أن يشعر كلّ لبنانيّ بفرح الحياة، ويفقه جوهرَها وباطنَها، أي المحبة، أيّا يكن مظهرُها."
وكان الرئيس عون واللبنانية الاولى وصلا الى جامعة الروح القدس- الكسليك عند العاشرة والثلث، حيث كان في استقبالهما الاباتي الهاشم ورئيس الجامعة الاب البروفسور جورج حبيقة اللذان رافقاهما الى قاعة البابا يوحنا بولس الثاني قبل ان يضعا باقتي زهر امام جثمان المصلوب.
وحضر الرتبة الرئيس امين الجميل، الوزراء: جبران باسيل، الياس بو صعب، البيرت سرحان، كميل ابو سليمان، مي شدياق، منصور بطيش، ندى البستاني، فادي جريصاتي، ريشار قيومجيان، نواب حاليون، وزراء ونواب سابقون، السفير البابوي في لبنان المطران جوزف سبيتيري، رئيس المجلس الدستوري عصام سليمان، رئيس مجلس القضاء الاعلى القاضي جان فهد، قائد الجيش العماد جوزف عون، وقادة الاجهزة الامنية، رئيس المجلس العام الماروني الوزير السابق وديع الخازن، رئيس الرابطة المارونية النائب السابق نعمة الله ابي نصر، رئيس المؤسسة المارونية للانتشار شارل الحاج وكبار موظفي الدولة المدنيين والعسكريين والقضاة ونقباء المهن الحرة ورؤساء جامعات وحشد من رؤساء البلديات والمخاتير والمؤمنين.
وعاون الاباتي الهاشم في الرتبة مجلس الاباء المدبرين في الرهبنة والبروفسور حبيقة ولفيف من الاباء، وخدمت الرتبة جوقة الجامعة بقيادة عميد كلية الموسيقى الاب بديع الحاج.
عظة الاباتي الهاشم
وبعد قراءة الاناجيل الاربعة، القى الاباتي الهاشم عظة جاء فيها:
"أمام الصليب، صليب الهوان المعلّق عليه يسوع، نحن في حضرة ابن الله، ربّ المجد. لكنّ فكرنا غالبًا ما يتخبّط في الضياع، أمام هذا المشهد، فيفضّل البعض منّا صرف النظر عنه للتركيز على مشاهد الحياة والمقاييس التي نسلّطها عليها، خصوصًا من ناحية الإنجازات والنجاح. ولكنّ المتنحين عن التأمّل في الصليب، يعودون فيصطدمون بواقعٍ مريرٍ معيّن. فلا واقعيّةَ حياتيّةْ دونَ الصليب.
وتنبري مشاهد الصلب أمامنا، مشهدًا مشهدَا، حيث الإنسانُ في قمّة هشاشته الوجوديّة، مظلومٌ، ومغلوبٌ على أمره، ومعزولٌ، ووحيدٌ، وحيث اللهُ حاضرٌ، كلَّ الحضور، بالرغم من ظاهرِ غيابِه. فنكتشف، من خلاله، مجدّدًا، واقعيّةَ حياتِنا.
عند الصليب، تخلّى جميع من كانوا مع يسوع عنه. أنكره بطرس. خانه يهوذا. هرب الرسلُ وفارقوه. استهزأ به الجنود، وجميع المارّة أمام الصليب كانوا يجدّفون ويعيّرونه. رؤساء الشعب حكموا عليه وهزئوا به. وتصل الأمورُ إلى دركها، فيسخر منه لصٌّ محكومٌ. حتى الأرضُ تخلّت عنه، ولم تعد ترضَى أن تفرش ذاتها بساطًا لقدميه، وجُلَّ ما قبلت به هو أن يُغرسَ صليبُه فيها.
في تلك الهنيهات، نظر يسوع من حوله، وأدرك كم هو معزول ومتروك، ووجد أنّ المكان الوحيد الذي بقي له للتوجه اليه هو السماء. صرخ عندئذٍ لله أبيه، صرخة البائس وقال: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" من هناك أيضًا، لا جواب تسمعه الآذان أو تراه العيون.
نحن نرى ذاتنا أحيانًا في حالة يسوع البريء والمتألّم والمظلوم، ونرى، أحيانًا أخرى، آخرين في هذه الحالة الذريّة، كما نرى، في أحيانٍ، أناسًا يلبسون زِيَّ الظالمين الذين حكموا على يسوع، والذين مرّوا امام الصليب مستأهزئين. وقد نلبس، لا سمح الله، أحيانًا أخرى، هذا الزيّ.
كم مرّةٍ يأتي الموتُ أو شكلٌ من أشكاله ليطال حياتنا مباشرة؟ كم نحزن لفقدان أحد أحبّائنا، وكم نتيه بسبب مرض يدق بابَنا شخصيًّا، أو يدقّ باب حبيبٍ أو قريبٍ لنا؟ كم حالةِ فقرٍ تهدّد بالنيل من فرح الحياة ومن كرامة الإنسان؟ كم إنسانٍ يفقد جمال الحياة وفرحها لأنّه يقع في أزمات نفسيّة أو أزمات إدمان تجعله مخلّعًا من الداخل، غيرَ متماسكٍ وكئيب؟ كم عنفٍ يضرب مستضعفين؟ كم حربٍ تقرع طبولُها فتدمّر الحجر وتطرح الإنسان في الشارع قتيلاً وجريحًا ومشرّدًا ونازحًا في مشاهدَ مروّعة، وكأنّ الحالةَ الإنسانيّةَ نُزعت من مفتعليها ومن متلقيها؟ وتطول لائحة الآلام وقد يزيد كلّ منّا سطرًا أو سطورًا فيها.
حالة الصليب هي حالةٌ يعيشها الكثيرون في كلّ هنيهة من لحظات التاريخ، وهي ليست فقط صورةً يحيطُ العقلُ والفكرُ بجوانبها، بل إنّها واقعٌ، في كلّ زمن، واقعٌ يطالُ كلَّ إنسان، بدون استثناء، بطريقة من الطرق، مباشرةً أو غيرَ مباشرةٍ. إنّ الألمَ وعنفَ الظلمِ هما رفيقا الحالة الإنسانيّة.
وهنا بالذات نعود إلى الإنسان يسوع، المتألّم كلّ الألم. نعود اليه لأنّه يفهمنا معنى الوجود ومعنى الحالة الإنسانيّة. نعود إليه لأنّنا نريد معانقة الصليب، فكما قال لنا قداسة البابا فرنسيس يوم أحد الشعانين: "لا يمكن التفاوض مع الصليب، إمّا أن نعانقه أو نرفضه. وقد أراد يسوع، عبر تواضعه، أن يفتح لنا طريق الإيمان ويسبقنا فيها".
نعود اليه، لأنّه هو الإنسان، وهو الله. فهو يفهمنا أنّ في باطن الواهن والضعيف والمظلوم، هناك الله. هو يفهمنا أنّنا لا نستطيع إدراك كيف أنّ الله، في حكمته اللامتناهيّة، أظهر محبّته اللامتناهية من خلال آلام ابنه. هو يفهمنا أنّ أفق الحياة ليس ما تراه عيوننا من أفق الأرض ومن انجازات الأرض، بل إنّ أفق الحياة ينفتح على رحاب أزليّة الله.
يفهمنا يسوع، من خلال صلاته إلى الآب، عشيّة آلامه: "لتكن مشيئتك لا مشيئتي"، أنّ ثباته في موقفه مع الله، حتّى الصليب، وهو إنسان واحد، أفاض الخير على كثيرين. هو يفهمنا أنّ موقف كلّ منّا، بدون أيّ استثناء، ضروريّ لننهض جميعُنا، بعضُنا مع بعض. من هنا، أريد دعوة كلّ أخٍ وأختٍ في المواطنة اللبنانيّة إلى تحمّل هذه المسؤوليّة الجسيمة لينهض لبنان. علينا أن يفحص كلٌّ منّا ضميره عن كميّة الخير الذي شهد له وثبت فيه وزرعه في محيطه، قبل أن نشير إلى بعضنا البعض أو إلى المسؤولين بيننا باصابع الاتهام. هذا الموقف، أي تحمّل المسؤولية الشخصيّة لكلّ منّا، هو الموقف الأوّل في درب ترسيخ ثقافة الشفافيّة ومكافحة الفساد في مجتمعنا.
يفهمنا يسوع أنّ مظهر الحياة لا يعبّر دائمًا عن جوهرها. إنّ جوهر الحياة، أي باطنها، هو المحبّة والخير والحقّ. إنّ الله محبّة. هذا هو جوهر الحياة، هذا هو نجاحها، وهذا هو إنجازها. فلنفرحنّ بكلّ إنجاز وبكلّ نجاح، فالمسيحيّ هو الناظر بكلّ إيجابيّة إلى ديناميّة الحياة وجمالها وفرحها وتقدّمها، ولكن فلنعلم دائمًا أنّ النجاح ليس بنجاحٍ الاّ اذا كان دائمًا، ولا ديمومةَ الاّ مع الدائم الوحيد الذي هو الله.
ويسوع المتألّم على الصليب يفهمنا أنّ الله محبة لكلّ إنسان، وخصوصًا للإنسان الضعيف. وهو علّمنا قبيل آلامه أنّ ما نفعله مع الإنسان، وخصوصًا الضعيف، فمعه نفعله، خيرًا كان أم شرًّا. إنّ الإنسان هو أخ ليسوع، ابن الله. فكلّ حالة ظلم يخلقها الإنسان تجاه الأضعف منه، مهما كان نوعها، هي مجابهة لله وتعدٍّ عليه. لذا إنّ كلَّ ظالمٍ فاشلٌ لا محالة، لأنّ اللهَ هو المنتصر الدائم.
يفهمنا يسوع، من خلال صليبه، أنّ الكلمة الأخيرة ليست للألم والهوان والظلم والأسى والموت. إنّ الكلمة الأخيرة هي لله وللحياة وللقيامة، إذ إنّ صليب يسوع هو صليب القيامة. في باطن الصليب، هناك قيامة.
في هذه اللحظات من إعلان هذا الإيمان، يتوجّه الفكر إلى أمّنا الكنيسة التي تحمل الحقّ وتعلنه، من أجل خير كلّ إنسان وخلاصه، ومن أجل نموّ كلّ الأوطان. أود هنا أن أتوجه إلى سعادة السفير البابوي في لبنان، المطران جوزف سبيتري السامي الاحترام، بالتعبير عن فرحنا لوجوده معنا للمرّة الأولى في هذه المناسبة المجيدة، راجيًا إيّاه أن ينقل إلى قداسة البابا فرنسيس أصدق مشاعرنا البنويّة وطاعتنا المطلقة، وهو رأس الكنيسة الكاثوليكيّة التي نفرح بالانتماء اليها وإلى مسيرة "الأخوّة الإنسانيّة" التي يقود قداسته رسالتها في العالم مع مختلف الشعوب ومختلف الأديان، والتي تلاقيها مبادرة فخامة الرئيس في جعل لبنان بلد التلاقي والحوار الإنساني. كما اتوجه إلى صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الكليّ الطوبى باسمى مشاعر البنوّة سائلاً الله أن يعضده في رسالته وفي مواقفه من اجل الكنيسة ومن اجل لبنان.
وإذ تشارف كلمتي على نهايتها، أود أن أحيّي انطلاقةً جديدةً. إنني أتوجه اليكم يا فخامة الرئيس، شاكرًا ايّاكم كلّ الشكر على حضوركم بيننا. جميعنا نصلّي، إذ نتلمّس الزخم الذي تظهرونه والذي تدعون اليه من اجل ترسيخ الانطلاقة الجديدة للعهد، العهدِ بالمعنيين: معنى الفترة الزمنية لتحمّلكم للمسؤوليّة، والعهد الآخر الذي تحملونه في القلب وتعبّرون عنه في مجالسكم، إنّه العهد الذي قطعتموه تجاه شهداء لبنان، أي الوعد بإكمال المسيرة من أجل غدٍ أفضل للبنان، الوطن الذي استشهدوا لأجل أن يبقى ويعيش فيه أهلهم وعائلاتهم بكرامة. حسبنا، في ما تقومون به، فخامتكم وجميع المسؤولين في الدولة اللبنانية، أن نردّد كلمات عاموس النبيّ القائل: "ليجرِ الحقُّ كالمياه، والبرُّ كنهرٍ لا ينقطع" (عاموس 5: 24). إنّنا نرافقكم بصلاتنا وبقدراتنا من أجل أن تنجح مسيرة الخير في عهدكم ومن أجل أن يشعر كلّ لبنانيّ بفرح الحياة، ويفقه جوهرَها وباطنَها، أي المحبة، أيّا يكن مظهرُها. إنّ الله معنا على الدوام، في باطن حياتنا، يرافقنا. إنّه ملكوت الله بيننا. آمين."
وبعد انتهاء الرتبة، انتقل الرئيس عون واللبنانية الاولى والاباتي الهاشم الى قاعة جانبية وانضم اليهم الرئيس الجميل والوزيران جبران باسيل والياس بو صعب والوزير السابق وديع الخازن والسفير البابوي وعدد من الآباء قبل ان يشارك الجميع في غداء اقيم للمناسبة.