مقالات وأراء

إعادةُ ترتيبِ بيتِ الفساد

2019 آذار 03
مقالات وأراء المدى

#الثائر

كتب سجعان قزي في "الجمهورية" يقول: انتهَت الحملةُ على الفسادِ قَبلَ أنْ تبدأ. سَيَّسوها فسَرَّحوها. شَخْصَنونها عِوضَ أن يُعمِّمُوها فأَعَمَوْها. وأصلًا هي حملةُ رفعِ عَتب. نَبشوا التاريخَ، ولولا الحياءُ لنَبشوا الضريحَ. تناسَوْا الفسادَ الحاليَّ وهو طافٍ على سطحِ القصورِ والبيوتِ والمقارّ والوزاراتِ والمؤسّساتِ والإداراتِ، ويَتنقَّلُ في العائلاتِ من جيلٍ إلى جيل. إنّه الفسادُ الوِراثيّ.

لكنَّ حزبَ الله، فَضّل أن يَستعيرَ "الإبراءَ المستحيلَ" من "التيّارِ الوطنيِّ الحرّ" فأساءَ إلى موضوعيّةِ حملتِه. رَبطَ الفسادَ بـــ 14 آذار، وتحديدًا بـــ"تيّارِ المستقبَل" وإسميًّا بالرئيسِ فؤاد السنيورة. أين الآخَرون يا حِزب؟ أهُمْ فوقَ الشُبهاتِ؟ أهُم أنبياءٌ ورسلٌ وقِدّيسون؟ نَعرِفُك حزبًا جِدّيًا، لـِمَ هذه الزَّلّة؟

مكافحةُ الفسادِ سياسيًّا هو فسادٌ. وملاحقةُ الفاسدين انتقائيًّا هي فسادٌ أيضًا. والتمييزُ في الفسادِ بين 14 آذار و8 آذار والوسطيّين هو فسادٌ كذلك. واستباقُ القضاءِ بالاتّهامِ هو فسادٌ آخَر. إنْ لم تكن الحملةُ على الفسادِ جُزءًا من معركةٍ أخلاقيّةٍ تكون انتقامًا.

والفارِقُ بين الانتقامِ والعدالةِ كبيرٌ كالفارِقِ بين الميليشيا والمقاومة. وفيما الشعبُ يريد عدالةً، بدأت مكافحةُ الفسادِ تأخذُ منحىً انتقاميًّا تُبطِل الهدفَ، إذ حين تَجري المحاكماتُ إعلاميًّا تُحرِجُ المحاكماتِ القضائيّة.

الشعبُ يريدُ وقفَ الفسادِ الحالي لا العودةَ إلى عهدِ الاحتلالِ العُثمانيّ ومرحلةِ الانتدابِ الفرنسيِّ وسنواتِ الحروب. صحيحٌ أنَّ الفسادَ ازدهَر أثناءَ الاحتلالِ السوريِّ لاسيما في التسعينات، وصحيحٌ أنَّ قولَ "عفا عما مضى" مُحبِطٌ للرأيِ العامّ، لكنَّ التوغّلَ في الماضي يُنسينا الحاضرَ، مَوْضِعَ الشكوى الآنَ.

الشعبُ يريدُ كشفَ الفسادِ الطازَج في قضايا الماءِ والكهرباءِ والنفاياتِ والاتّصالاتِ والمواصلاتِ والمخالفاتِ والتَلزيماتِ والصفقاتِ الكُبرى والنفطِ والغازِ والتعدّياتِ على الأملاكِ العامّة.

والشعبُ يريدُ كشفَ الهدرِ المتصاعِدِ في المرافئِ والمطاراتِ وعلى الحدود، وهو يَتفوّقُ على الفسادِ كمًّا ونوعًا. لا يريدُ الشعبُ كتابةَ تاريخِ الفساد ورَسمَ شجرةِ عائلتِه.

لكن ما نَشهَدُه حاليًّا لا يزال بعيدًا عن وقفِ الفساد. إنّه إعادةُ ترتيبِ بيتِ الفساد من أجلِ انطلاقةٍ جديدة. نَشهَدُ: إحالةَ أشخاصٍ انكَشفوا على التقاعد، إدخالَ وافدين جُددٍ إلى سوقِ الفساد، الإفادةَ من وسطاءَ بَرعوا في الفسادِ في أوطانِهم الأمّ، إعادةَ توزيعِ الحِصَصِ مع وعدٍ برفعِ الغبنِ عن المحرومين من الفسادِ مستقبَلًا، فتحَ البابِ أمامَ مساهِمين جددٍ لاستيعابِ الفسادِ الآتي، الاستعانةَ بتِقنيّاتِ فسادٍ جديدةٍ كاعتمادِ الذَكاءِ الاصطناعيِّ والفسادِ الـمُمَغْنَط. إنْ وُلِد الفسادُ مع البشريّة، فهو يُحبُّ العيشَ الرغيدَ ويَحرِصُ على مواكبةِ العصرِ والحداثة.

قد أَصدُمُ القارئَ إذا أَنبَأتُه بأنَّ معركةَ الفسادِ خاسرةٌ سلفًا. فعدا أنّ الفاسِدين لا يحاكِمون أنفسَهم، لا نَنتَظِرنَّ انخفاضَ نسبةِ الفسادِ في لبنان قبلَ بناءِ الدولة وتحسينِ التربيّة. فخِلافًا لما نَعتقدُ، لم نَبنِ دولةً بعدَ "اتفاقِ الطائف"، بل نَقلنا دويلاتِ الميليشياتِ إلى دولةٍ مُنهارة. فظلَّ ولاءُ أركانِ الميليشياتِ لدويلاتِهم أكثرَ من ولائِهم للدولة.

ولقد أثبتَت تجربةُ المائةِ سنةٍ من عمرِ دولةِ لبنانَ الحديث أنَّ ارتفاعَ نِسبةِ الفسادِ ترافقَ مع تراجعِ الشعورِ بالانتماءِ إلى الدولة ومع سيطرةِ طبقةٍ سياسيّةٍ مُتخرِّجةٍ من عالمِ الفساد.

قبلَ الحرب ِكان الفسادُ استثناءً والنزاهةُ قاعدة. بعدَها صار العكسُ. ورغمَ نقصِ الولاءِ الوطنيِّ، الشعورُ بلبنانَ الوطن اليومَ أقوى من الشعورِ بلبنانَ الدولة. نقاوِمُ من أجلِ لبنانَ ونُستَشَهد، لكنّنا نَسرُق دولتَه. أثناء الحروبِ سَرَقناها كقِوى أمرٍ واقِع، وبعدَ "الطائف" نَسرِقُها كقوى شرعيّةٍ وميثاقيّة.

بين الطبقةِ السياسيّةِ توجدُ شخصيّاتٌ شريفةٌ، لكنَّ تأثيرَها في محاربةِ الفسادِ شِبهُ معدومٍ ويَقتصِرُ على تسجيلِ اعتراضٍ في الإعلامِ أو مجلسِ الوزراء. هذا الواقِعُ المعيبُ سيَطول لأنَّ معالجةَ الفسادِ ليست حُكمًا قضائيًّا فقط، بل هي مسيرةٌ تربويّةٌ وأخلاقيّةٌ ووطنيّة.

القضاءُ يحاكِمُ نماذجَ فاسِدةً بينما الفسادُ في لبنان حالةٌ اجتماعيّةٌ عامّة. وأصلًا، لا توجد في العالمِ حلولٌ نهائيّةٌ للفسادِ. إنه لصيقٌ بالإنسانِ ويَنتقل إلى الشخصِ حسبَ الواقعِ الاجتماعيّ. إنه أحدُ أوجُهِ الشرِّ الكامنِ في طاقتِنا السلبيّة. يَظلُّ دفينًا في جوفِ النفسِ في المجتمعاتِ الشفّافةِ ويُطِلُّ برأسِه في البيئاتِ السيّئة.

ولذلك، يَجدُر بالدولةِ أنْ تُطلِقَ يدَ القضاءِ في محاربةِ الفسادِ على المدى القصير، ويدَ الشعبِ في تغييرِ الطبقةِ السياسيّةِ على المدى المتوسّط، ويدَ التربيّةِ في تنشِئةِ المواطنِ على المدى البعيد.

بانتظارِ الحلولِ الكبرى أو "رجلِ العنايةِ" (l’Homme providentiel)، يجبُ سحبُ ملفِّ الفسادِ من أيدي القِوى السياسيّةِ والطائفيّةِ، وحَصرُه في قضاءٍ استثنائيٍّ مستقلٍ. وهذا يَقتضي ما يلي:

1. تأليفُ الهيئةِ الخاصّةِ لمكافحةِ الفساد، وتَضُمُّ عشرةَ قضاةٍ وقانونيّين تَشهَدُ سِجلّاتُهم بالكفاءةِ المهنيّةِ والنزاهةِ الأخلاقيّةِ والمناعةِ أمام ضغطِ السلطاتِ السياسيّةِ والطائفيّة.

2. يَنتخِب أعضاءُ الهيئةِ رئيسًا منهم بأكثريةِ الثُلثين، وتَتّخذُ الهيئةُ قرارتِـها بالثُلثين أيضًا (سبعةُ أعضاء).

3. يختارُ مجلسُ القضاءِ الأعلى أعضاءَ الهيئةِ العشرةَ ولا يَحِقُّ لمجلسِ الوزراء تغييرَ أكثرَ من ثلاثةٍ منهم بعد تقديمِ أسبابٍ مُقنعةٍ على أنْ يُصوِّتَ مجلسُ الوزراء على البُدلاء بأكثريّةِ الثُلثين، وإلا يَبقى اختيارُ مجلسِ القضاءِ الأعلى ساريًا.

4. تُمنحُ الهيئةُ صلاحيّاتٍ تحقيقيّةً وإجرائيّةً وتَعمل بالتنسيقِ مع هيئاتِ الرقابةِ في الدولة: التفتيشُ المركزيُّ، ديوانُ المحاسبةِ، مجلسُ الخِدمةِ المدنيّة، هيئةُ المناقصاتِ العامّة، ومع رئيسِ مجلسِ القضاءِ الأعلى والمدّعي العامّ التمييزيِّ والمدّعيِ العامِّ الماليّ، ومع مَن تَقتضيه الحاجة.

5. تُشَكّلُ فصيلةٌ أمنيّةٌ مستقلةٌ وموقّتة (فترةُ عملِ الهيئة)، مُهمّتُها تنفيذُ ما تَطلُبه الهيئةُ منها خطّيًا من دونِ العودةِ إلى الأجهزةِ الأمنيّة القائمة.

6. تَضعُ الهيئةُ آليّةَ عملِها في خلالِ أسبوعين وتُقدّمها إلى مجلسِ الوزراء للإقرارِ في مهلةِ أسبوعين.

7. يَستمر عملُ الهيئة مُدّةَ سنةٍ على أنْ تُصدِرَ الأحكامَ بحقِّ المتَّهمين في خلال هذه المدّة.

8. يُسهِّلُ المجلسُ النيابيُّ رفعَ الحَصانات بناءً على طلب الهيئة.

9. طوالَ مدّةِ عملِهم، يلتزمُ أعضاءُ الهيئةِ تقنينَ عَلاقاتِهم الاجتماعيّة والابتعادَ عن الأضواءِ تعزيزًا لهيبَتِهم وحِرصًا على حيادِهم المُطلق.

من حقِّ اللبنانيّين أن يعيشوا في ظلِّ دولةِ القانون وفي مجتمعٍ ديمقراطيٍّ شفّاف. ومن حقّهِم أنْ يَحلُموا أيضًا. طالَ هذا الكابوس... كثيرًا طال.

المصدر: الجمهورية https://bit.ly/2HiW9LA

اخترنا لكم
إعلان عن شراكة استراتيجية بين جمعية غدي وجمعية حماية الطبيعة في لبنان لدعم “الحمى” إعلاميًا وعلميًا
المزيد
أبي المنى يدعو إلى شراكة روحية - وطنية تصون الوطن وتحمي مرتكزاته
المزيد
قاسم في تشييع نصر الله وصفي الدين: المقاومة لم تنته وهي تكتب بالدماء ولن نسمح باستمرار قتلنا واحتلالنا ونحن نتفرج
المزيد
الرئيس عون أمام الوفد الايراني: لبنان تعب من حروب الآخرين
المزيد
اخر الاخبار
إعلان عن شراكة استراتيجية بين جمعية غدي وجمعية حماية الطبيعة في لبنان لدعم “الحمى” إعلاميًا وعلميًا
المزيد
الجزائر.. وفاة 3 عسكريين في عين تموشنت
المزيد
رئيس الجمهورية يستقبل سفيرة لبنان في قبرص.. ويزور السعودية الأحد
المزيد
أوفتشاروف: دعم أوكرانيا استثمار في الأمن العالمي!
المزيد
قرّاء المغرد يتصفّحون الآن
قيومجيان ترأس المجلس الأعلى للطفولة: لتفعيله كإطار وطني ناظم للسياسات الاجتماعية
المزيد
تجمع الاتحادات العمالية أمام قصر عدل تزامنا مع جلسة الاسمر
المزيد
محتجون يتظاهرون رفضا لتكليف الصفدي بتشكيل الحكومة
المزيد
مقتل عارضة أزياء هندية بعد رفضها ممارسة الجنس!
المزيد
« المزيد
الصحافة الخضراء
غانم: المحميات الطبيعية ضمانة بيئية واستثمار في المستقبل
ألنبيذ اللبناني بات ينافس في الاسواق الاميركية والاوروبية لويس لحود: انتاجنا ١٢ مليون قنينة وطموحنا ٥٠ مليون قنينة
فيديو.. هكذا تحطم صاروخ "ستارشيب" وتساقط حطامه
كابي فرج رئيساً لنقابة مزارعي البطاطا في البقاع
ماذا عن التقرير الاولي لتحديد الاضرار والحاجات الناجمة عن العدوان الإسرائيلي؟
بدانة البشر والكلاب.. دراسة مثيرة تكشف عاملا مشتركا