#الثائر
كتبت راجانا حمية في صحيفة "الاخبار" تقول:
منذ أربع سنوات، لم تعد بلدة بر الياس البقاعية تفكّ حدادها على ضحايا مرض السرطان الذي يجرجر أبناءها واحداً تلو الآخر. حدث ذلك مذ صارت لعنةً جيرةُ نهر الليطاني الغارق في أوساخ مجاري الصرف الصحي ومخلفات المعامل المعتدية على ضفافه و«أوساخ» الدولة التي أهملته منذ ثلاثين عاماً. صحيح أن آمالاً ربما تكون معلقة على المصلحة الوطنية لنهر الليطاني التي بدأت أخيراً بملاحقة ملوّثي النهر، لكنها مسيرة طويلة، ودونها ضحايا كثر سيسقطون.
في بر الياس، «ينتحر» الناس بالسرطان. لا يكاد يمرّ أسبوع على البلدة، من دون أن يموت أحد بـ«هيداك المرض». هناك، تعدّدت «الموتات» والسبب واحدُ: السرطان ، إلى درجة أن أحداً لم يعد يصدّق أن ثمة من يرحلون بسبب أزمة قلبية أو بمرض السكري أو بسبب التقدّم في العمر. لا يأتي هذا الإنكار من عبث، وإنما من واقع يعيشونه ويعايشونه. وهم لا يبالغون عندما يتحدّثون عمن «يسوقهم» السرطان إلى الموت، فيقولون إن من «بين كل 5 وفيات بالضيعة، 4 بيروحوا فيه».
قبل أن يصبح السرطان واقعاً في بر الياس، لم يكن الناس ينتبهون الى تلك «الحسبة». كان «متلو متل غيرو»، يقول ثابت زرين. لكن، منذ أربع سنوات، بدأ الموت يتخذ مساراً آخر، عندما لم يعد الناس يسألون «كيف مات فلان؟».
اليوم، يتحدّث الأهالي عن نحو 600 مريض بالسرطان في البلدة. ثمة من يقول «بحدود 700»، بحسب المختار زاهر الهندي. ما يعرفونه فقط هو أرقام من يتلقون العلاج «وهم بحدود 300 مريض بحسب أرقام وزارة الصحة العامة». لا إحصاء دقيقاً لعدد المرضى، فقد توقّف «العدّ» منذ فترة طويلة، مذ صار المرض «سراً» شائعاً، لم يعد أحد يخبر عن موته الآتي. لا علاقة للأمر هنا بالخوف، بل «بسبب شعور الشفقة الذي يواجه به المريض»، يقول الهندي. أما السبب الآخر، فهو أن السرطانّ صار «عموم»: ستجد من يحدّثك عن بيوت معظم أفرادها مصابون بالسرطان. هنا، أب وابنته، وعلى بعد بضعة منازل، أب وأم وطفلتهما الصغيرة، قبل أسبوعٍ ماتت الشابة وداد، وقبلها بأسبوعين مات شاب آخر. الكل «أصابه الفقد»، يقول المختار الذي مسّه هذا الفقد بـ«ثلاثة من أفراد عائلتي بظرف سنة ونصف سنة».
لم يسقط السرطان بـ«الباراشوت» على المنطقة، ولا أتاهم دون سواهم من المناطق التي تعيش الحال نفسها. وإذا كانت لذلك أسباب عامة، منها ما يتعلّق بالعوامل الوراثية والطفرات الجينية، أو ما يتعلّق بالتلوث (مبيدات زراعية، نفايات...) والنظام الغذائي وغيرها، إلا أن ثمة سبباً آخر راكم اللعنة، وهو جيرة نهر الليطاني الذي استحال مجروراً للصرف الصحي ومكباً للملوثات الصناعية التي تلفظها المصانع المعتدية على ضفافه. في السنوات الأربع الأخيرة، دفعت جيرة النهر بمن يملك القدرة على الرحيل إلى الهرب بعائلته إلى مكانٍ آخر. من بقوا لا يملكون خيارات أخرى: المزارعون وأصحاب المحال التجارية. لا مكان هنا لسردية «التعلّق بالأرض». ما يبقيهم أنهم عاجزون عن ترك تلك الجيرة، فهم في غالبيتهم ممن يعتاشون من الزراعة، المصدر الأساس للدخل في البلدة. مساحة الأراضي الزراعية في برّ الياس تقدّر بـ20 ألف متر، «كنّا نزرع فيها كل شيء من البطاطا إلى الخضروات والقمح (…) إلى كل شي بيخطر على البال»، يقول زرين. يتذكّر كيف «كانت مزروعاتنا تروح على كل المناطق، بما فيها بيروت... حتى إننا كنا نصدّر إلى سوريا». السرطان دفع المزارعين إلى تغيير «روزنامتهم» الزراعية. كثيرون استبدلوا الزراعات المروية بزراعات أخرى «بعل» كي لا يضطروا إلى ريّها بمياه الليطاني. «قلَبَ» وسام السيّد زراعته من الخضروات إلى القمح، وكذلك فعل زرين. صحيح أنها تجارة غير مربحة، لكنها «أهون من قتل الناس بالسرطان»، يقول السيد. الأخير لم يعد يأكل كل ما تنتجه الأرض، وصار يشتري ما يحتاج إليه من طعام ومؤونة ممن يثق بهم، و«وصلت لمحل صرت عم بشتري البطاطا من بيّي». أما زرين، فقد أبقى من الأرض التي يزرعها قمحاً، 400 متر «أزرعها خضروات لنأكل منها. نحن عشرة بيوت نأكل خضاراً من هذه المساحة، لكننا لم نعد نعيش مما نزرعه، فالقمح بالكاد يسدّ الرمق… إذا الله زمّطنا».
اتسعت سهول القمح في بر الياس. هذا ما فرضه الجار عليهم. لا خيار ثالثاً: إما القمح أو السرطان. من بقي على الزراعات المرويّة من مياه الليطاني بات في مواجهة مفتوحة مع بقية الأهالي، خصوصاً أعضاء «اللجنة الوطنية لنهر الليطاني». لا يبالغ المختار زاهر الهندي في القول إن الزراعة هي «عمود» الحياة في بر الياس، «فمعظم الساكنين مزارعون. أما البقية، فقد فتح لهم الطريق الدولي الذي يمرّ في البلدة منذ عام 1982 سبيلاً آخر عبر افتتاح مؤسسات تجارية».
حتى اليوم، لم يفتتح الموسم الزراعي في بر الياس. مع مطر هذا العام، فاض النهر على جيرانه ولم يعد بالإمكان زرع المساحات التي تحدّ ضفتيه. غرقت معظم الأراضي في «خلطة» من مياه الأمطار ومياه أقنية المجاري الآتية من المعامل والبيوت وتجمعات النازحين السوريين. مع ذلك، يعوّل الأهالي على مياه المتساقطات لـ«تقلب مياه النهر» وتخفّف من حدّة التلوّث، يقول الهندي. هكذا، ينظر الناس إلى الجار. يراقبون «تحولاته» عبر الفصول ليتنبأوا بمصيرهم الآتي. هذه السنة «شكلها سنة خير شوي»، ليس فقط في الزراعة، بل أيضاً في أحوال الصيف والروائح التي تتسبب فيها أوساخ النهر. يقدّر هؤلاء أن «الروائح ستكون أخف هذا العام».
لا الصيف ولا الشتاء يخفّفان من وطأة النهر على البلدة. قبل ثلاثين عاماً، كنت تمدّ يدك إليه، «تكشح» عنه طبقته المغبّرة لتشرب من مياهه الصافية. يقول سكان النهر إن الليطاني «كان نعمة. وحتى عندما تخفّ مياهه يبقى فيه متران من المياه الصافية التي تظهر قعره المفروش بالبحص الأبيض». قبل عشر سنوات، استحال النهر رمادياً، و«مجروراً» طويلاً من المياه الآسنة. ولئن كان جيران النهر وأعضاء «اللجنة الوطنية»، وهم أيضاً أبناء برّ الياس، يحمّلون المسؤولية الأكبر للدولة التي لا تملك حتى هذه اللحظة الإرادة السياسية الكافية لنزع التعديات عن النهر، إلا أنهم أيضاً يحمّلون جزءاً من تلك المسؤولية لمن يسكنون بجواره. أهله «يشاركون أيضاً في الجريمة».
في الجزء الأول، علاقة الدولة مع النهر مقطوعة منذ توقفت عن تنظيفه بالشكل المطلوب قبل 30 عاماً. أما التعديات، فلها «اللجنة الوطنية» التي تعمل، باللحم الحي، في ظلّ غياب إرادة الدولة. والنتيجة؟ سرطان قاتل، ليس في بر الياس وحدها، بل في كل البلدات المجاورة للنهر من لوسيا إلى جب جنين إلى حوش الرافقة. لا يملك هؤلاء سوى تفويض الدولة للقيام بواجباتها، «وإن كنّا لم نعد نؤمن بها»، يقول الهندي. فآخر مرّة أقفل أهالي البلدة الطريق الدولية لتشغيل محطات التكرير، خصوصاً محطة زحلة، جرى تشغيل الأخيرة بنصف طاقتها، و«لا تزال 50% من المياه الآسنة تنزل مباشرة في النهر من دون معالجة». أما محطة الفرزل فلا تزال متوقفة إلى الآن «لأنها تكلّف 15 مليون ليرة بدل كهرباء شهرياً»، هذا ما قاله النائب ميشال ضاهر للسائلين عن سبب عدم تشغيلها! يعني ذلك كله أن الدولة لم تترك أمام الـ«بر الياسيين» إلا خيارين: حياة في المجرور أو موت بالسرطان!