#الثائر
قبل أن تقرر التشبه بالفرنسيين وستراتهم الصفراء، تذكر أن في فرنسا ليس ثمة زعيم مدى الحياة، وتذكر أيضا أن ليس ثمة فرنسي واحد، وبعد الثورة الفرنسية (1789 – 1799) هتف "بالروح بالدم نفديك يا زعيم"، وتذكر أيضا أن علمانية الدولة أقصت الدين عن السياسة، وأن نحو 50 بالمئة من الفرنسيين غير منضوين في أحزاب، ولا فريق سياسي واحد وصل إلى الحكم وأقصى سائر الأحزاب السياسية إلى الأبد.
إن أي سياسي في فرنسا يتوجس خيفة من امتعاض الناس، لأن هؤلاء الـ 50 بالمئة هم من يرجح كفة الاشتراكيين أو الجمهوريين، كفة اليمين أو اليسار، وهؤلاء أيضا هم من أبعد عن فرنسا تجرع الكأس المرة مع اليمين المتطرف عندما وصل إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية عام 2002 رئيس "حزب الجبهة الوطنية المنتمي" برئاسة جان ماري لوبان، يوم استفاقت فرنسا وواجهت غلاة التطرف.
في فرنسا ثمة أكثر من أربعمئة حزب سياسي، غير أن التنافس يظل على أشده بين الاشتراكيين والجمهوريين، وهناك تلاوين سياسية بينهما، من اليسار المتطرف إلى اليمين المتطرف، إلى الوسط ووسط الوسط، ولم نشهد يوما منذ الجمهورية الخامسة (1958) ما يعكر أمن فرنسا واستقرارها، فحتى الرئيس شارل ديغول وما يمثل من رمزية في الوجدان الفرنسي كمحرر لفرنسا من الاحتلال النازي (1945)، وباعتباره الأب الروحي للجمهورية الخامسة، اضطر للتنحي بعد الثورة الطلابية في العام 1968، وما رافقها من تطورات لم تضعف فرنسا ولم تقوض دعائم استقرارها أو تهدد اقتصادها.
تصالح الفرنسيون مع تاريخهم، منذ الملكية إلى الجمهورية، بعد أن تم فصل الدين عن الدولة، وهذا ما لم يُفقد فرنسا وجهها المسيحي (الكاثوليكي)، لا بل تحولت ملاذا للباحثين عن حرية من كل أنحاء العالم، ولكل جماعة الحرية في بناء دور العبادة وممارسة طقوسها وشعائرها، وإن سوَّقَ بعض المهاجرين لأسلمة فرنسا مع بروز الإسلام المتطرف، إلا أن ذلك أفضى إلى وعي أكثر في فهم آلية تفكير الأصوليين وسبل مواجهتهم.
جاءت حركة " السترات الصفراء " في فرنسا كتحرك عفوي، من خلال نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، وامتدت معها كرة اللهب لتتسع حاملة مطالب واضحة عَــــبَّـر عنها الشعب وهو يواجه ظروفا اقتصادية ومعيشية تهدد أمانه الاجتماعي، ولم يلتفّْ أحد على المتظاهرين، رغم ما شابها من أعمال عنف.
في لبنان، بدت " السترات الصفراء " بالأمس أقرب ما تكون إلى كرنفال برعاية أحزاب السلطة، وإن كان ثمة بينهم من تحرك بدافع من ألم ومعاناة، وبهذا المعنى لم يتخط لبنان، في ظل نظامه الطائفي "السياسة الصفراء"، مثل تلك التي تُنعت بها الصحافة المتجردة من قيم ومناقب، تماما كما السياسة في لبنان ثابتة بنهج فضائحي أصفر، عطل وما يزال تشكيل حكومة لسبعة أشهر والحبل على الجرار.
ومن هنا، لا يمكن المقارنة، ونقول لمن أراد سحب الحراك الفرنسي إلى لبنان: شتان بين سياسة صفراء و"سترات صفراء"!