#الثائر
– أنور عقل ضو
كبرنا على مقولة أن لبنان بلد الإشعاع والنور، وكدنا نصدق أننا أذكى وأرقى بني البشر، ندنو لنكون من أنصاف الآلهة، سَخِرْنا من أمم وشعوب ومارسنا أمراض التفوق، ولما نزل محكومين بـ "بارانويا" ثابتة نعلي بالوهم حضورنا، متكئين على تاريخ لم نصنعه، وادَّعَيْنا وراثة "أجدادنا" الفينيقيين، وأننا أول من صدر الحرف إلى العالم، فيما الحقيقة الساطعة اليوم أن وجوهنا تحمر من خجل بأحمر كأرجوان فينيقيا القديمة ونحن في الأصل أقوام وجماعات كان لبنان لنا ملاذا من غاصب ومحتل.
لم نعش في لبنان تواصل أجيال في تاريخنا البعيد والقريب، كما هو الحال في مصر ، حيث تتابعت السلالات الحاكمة من دولة ما قبل الأُسُرَات إلى الحكم البطلمي والحقبة القبطية وصولا إلى عمرو بن العاص في مرحلة انتشار الإسلام بالسيف، فحجب الإرث الحقيقي لمصر، لكنه كان أعجز من محو شواهد الحضارة الفرعونية، وهي حاضرة وأقوى من أن تقوضها التحولات التاريخية الكبيرة، فليس ثمة مصري واحد يرضى بأن يكون تاريخ مصر قد بدأ مع عصر الفتوحات الإسلامية، ودائما نجد المصريين يقفون على أرض ثابتة في تأكيد انتمائهم إلى حضارة ما تزال محط اهتمام العالم، وترقى إلى ستة آلاف.
في لبنان ليس ثمة ما يؤكد انتماءنا "جينيا" للفنيقيين، وهذه ليست بمشكلة، فهذا الإرث يظل حاضرا كتراث إنساني نغتني به، إلا أننا نؤثر توظيف الماضي في الحاضر، وندعي نسبا لنروغ من عروبة ضائعة أساسا، شُوهت واستهلكت، وإن كنا مدعوين لتصويبها وتحريرها من أدران التخلف بعد تقزيمها إلى حدود مفاهيم ثيولوجية وربطها حصرا بالاسلام، دون أن نعي أن العروبة هي مكون أساس في شخصيتنا الوطنية اللبنانية، وأن هذه العروبة تغتني بتنوع الديانات، لتحلق في فضاء إنساني أكثر رحابة، خصوصا وأن اغترابنا عن جذورنا، لغةً وهُوية، لن يفضي إلى ما يعزز ثقافتنا برؤى التنوير بعيدا من إسقاطات التاريخ القريب.
لن نتمكن برؤيتنا القاصرة عن اكتناه العمق الأشمل للهُوية والانتماء، وفي ظل "الأوليغارشية" اللبنانية في تجلياتها الراهنة، لن نتمكن أيضا من أن نخطو نحو دولة حديثة، بمفاهيم قابلة للحياة، وسنظل في مكان ما نحلق أفرادا وجماعات في فضاءات غريبة ضمن محيط جيوسياسي يتخبط في صراعات هي امتداد لحركة التاريخ ولا تني تتمظهر بأشكال متعددة، ولكن بمضمون يكاد يكون واحدا.
أما مقولة أن لبنان بلد الإشعاع والنور، فلا تعدو كونها ادعاء أجوف، فلبنان دولة مؤجلة حتى "إشعاع" آخر!