أي مصادفة بحفظ دعويين في المجلس الدستوري وديوان المحاسبة |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
#المغرَد د. عصام نعمة إسماعيل
إن حق مراجعة القضاء هو من الحقوق الدستورية، إلا أن ممارسة هذا الحق يفترض أن يكون خاضعاً للضوابط اي المصلحة محل الحماية، وإذا أدرك المدّعي للمصلحة وأحسن فهمها كان التجاؤه للقضاء مفهوماً ومبرراً بالدفاع عن هذه المصلحة المحمية. ولا يقتصر حق اللجوء إلى القضاء على أشخاص الحق الخاص، بل أيضاً لأشخاص الحق العام أن يلجأوا للقضاء، والمغايرة الوحيدة هو بطبيعة المصلحة المطلوب حمايتها ففي إطار دعاوى الحق، فإن ما يصار إلى حمايته هو المصلحة العامة، وهذا ما يتطلّب التحقق من جدوى التقدّم بالمراجعة وأثرها والنتائج المترتبة عليها.
وفي المبدأ يقتضي أن تكون كافة أعمال أشخاص الحق العام موجّهة لتحقيق المصلحة العامة، ومبدأ التعاون بين السلطات المكرّس في الدستور مع ما يعنيه حسب اجتهاد المجلس الدستوري:" تسهيل كل سلطة، عمل السلطة الأخرى، وعدم عرقلة عملها، وذلك من أجل انتظام عمل السلطات وتفعيل دورها خدمةً للصالح العام(م.د. قرار رقم 2/ 2012 تاريخ 17/ 12/2012).
وانطلاقاً من قاعدة التعاون يقتضي عندما يكون لسلطةٍ ما حق الطعن بالقانون أمام المجلس الدستوري، أو إحالة مؤسسة عامة أمام النيابة لديوان المحاسبة، أو أي ادعاءٍ آخر أياً كان نوعه، أن يدرس هذا الطعن من زاوية جدواه للمصلحة العامة، وأثره على السلطة القضائية واستمرارية التعاون بين السلطات. لأن المناكفة بين السلطات والأزمات السياسية التي تعترض سير العمل الإداري أو عمل المؤسسات، لا يقتضي أن تنتقل إلى القضاء، الذي يجب أن يبقى محافظاً على القاعدة الأساسية في عمل السلطة القضائية، والمتمثلة بالحيادية بين القوى السياسية، وعدم الدخول في حلبة الصراع القائم فيما بينها، سيما عندما يكون هدف اللجوء إلى القضاء ليس تحقيق المصلحة العامة وإعلاء حكم القانون، وإنما اعتبارات الربح وتسجيل النقاط بعيداً عن منطق دولة الحق والقانون.
ولهذا فإن القضاء وعند فحصه الطعن لم يعد يكتفِ بالبحث في انطباق العمل على الدستور والقانون، لذا نجده ولكي يبقى بعيداً عن المؤثرات السلبية الناجمة عن البت بالطعون، يبحث عن السبل لرد المراجعة أو حفظها، في حال تبين له اعتبارات وازنة تبرر له هذا التصرف، وهذا ما أقدمت عليه النيابة العامة لديوان المحاسبة، إذ وفي ذروة أزمة الكورونا أدّعى وزير المالية على مؤسسة عامة أمام النيابة العامة لديوان المحاسبة، بحجة أنها لم تعد موازنة بواردات ونفقات مشروع تنفيذ فحوصات الكورونا وفق قانون المحاسبة العمومية، إلا أن النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة قد حفظت الملف بموجب قرارها رقم 72 تاريخ 21/12/2021 معللة سبب الحفظ بأن المباشرة بالتنفيذ على وجه السرعة كان لمواجهة تداعيات تفشي وباء كورونا والحد من انتشاره، وأن الضرورات تبيح المحظورات خصوصا عندما تكون الغاية المتوخاة من التدابير المتخذة مواجهة الأوضاع الخطيرة.
وكذلك فإن المجلس الدستوري عندما نظر بالطعن بقانون الانتخاب رقم 8 تاريخ 3/11/2021 وجد أن هذه القضية لا تقتصر على منازعة دستورية بحتة، بل لها خلفيات متصلة بنزاع بين قوى سياسية أرادت نقل خصوماتها إلى المجلس الدستوري، الذي كان أمام خيارات أحلاها مرّ، فالقضية سياسية بامتياز وأي قرارٍ سيصدر عنه سيجعله محل اتهام بالتبعية والولاء للقوى السياسية التي صدر القرار متوافقاً مع تفسيرها للنص الدستوري. لذا كانت الحكمة بحيادية هذه المؤسسة الدستورية وكأن من وضع النص بصدور القرار بأغلبية 7 أصوات كان يعلم بأن المجلس الدستوري سيقع في هكذا مطبات، فترك له باب الخروج من أزمة اتخاذ قرار يزيد عبء الأزمات، وهذا ما فعله المجلس في هذا الطعن عندما قرر بموجب المحضر المنظم بتاريخ 21/12/2021 أنه تعذر إصدار القرار ضمن هذه المهلة، لتعذر تأمين الأكثرية المطلوبة أي سبعة أعضاء وإن القانون المطعون فيه يعتبر ساري المفعول ويقتضي ابلاغ المراجع المختصة بذلك وتنظيم محضر بالوقائع". ورغم تعطشنا إلى تفسير المجلس الدستوري للمواد الدستورية ذات الصلة، إلا أنه لا يسعنا إلا تأييد ما انتهجه المجلس الدستوري من حيادية تمنع انغامسه في صراعات القوى السياسية غير المجدية ولا المبررة، لأن التوقيت ليس مناسباً للبحث في كيفية احتساب الأغلبية للتصويت في مجلس النواب، أو كيفية تصويت المقترعين في بلاد الاغتراب، ولو كنا في زمنٍ طبيعي لكنا ننتظر من المجلس الدستوري حسم هذه المسألة الخلافية وإعطاء التفسير الملزم، ولكن في ظلّ هذا الوضع المتأزم لم يكن مقبولاً أن تكون مسألة احتساب الأغلبية في مجلس النواب، وتاريخ اجراء الانتخابات، واقتراع المغتربين، محلّ صراع سياسي تجيّش له الأقلام والكتاب، وتحجز له مساحات في الإعلام، ويتلهّى أهل السلطة بمناقشة هذه المسألة وكأن لا أزمات في البلاد.
ويبدو أن تزامناً غير مقصود قد حصل في توقيت صدور قراري ديوان المحاسبة والمجلس الدستوري، أي انه بتاريخ 21/12/2021 صدر قرارين بحفظ دعويين من كلٍ من الجهتين المذكورتين، وكلاهما يشير ضمناً إلى أن الأداء غير الموفّق للسلطات الإدارية والدستورية، وأنه لم يكن مبرراً إشغال القضاء بنزاعات لم يكن أصلاً هناك جدوى منها. وأنه يقتضي على القيّمين على الشأن حسن تقدير الموافق وكيفية التعبير عنها، ومعرفة متى نخاصم وجدوى المخاصمة، هذا في حال كان هناك للمخاصمة جدوى للمصلحة العامة. ولكن للأسف تذكّرنا هاتان القضيتين بالقصة الشهيرة حول ترك الأمور الهامة، والإنشغال بالبحث حول جنس الملائكة.
|
|
|
|
|
|
|
|
|